مع تساقط الثلج في الشرق الأوسط الأيام الماضية وصلتنا الكثير من الأخبار والصور. كانت هناك طبعا صور اللاجئين المساكين في الخيام التي لا تسمن ولا تغني من زمهرير. وسمعنا أيضا بإغلاق المدارس والدوائر في العديد من المدن والقرى. وأيضا كانت هناك صور لمن حاولوا الاستمتاع بالثلج في المناطق التي لا ترى الكثير منه عادة. ولكن أطرف خبر سمعته في معمعة الثلج هذه كان فتوى صدرت في السعودية عن أحد الشيوخ تقول إنه لا يجوز في الإسلام صنع "رجل الثلج!" لأنه لا يجوز صناعة المجسمات أو رسم الصور المشابهة للمخلوقات الحية. ذكرتني هذه الفتوى بأحد الأيام عندما كنت في المدرسة في السعودية وطلبت مني إحدى الفتيات المتدينات بعضا من دفاتري المدرسية لنقل بعض الحلول والمسائل. أعادت لي دفاتري في اليوم التالي مع شخبطات على الأغلفة. تبين لي بعد المُسائلة أنها لم ترتح إلى إدخال دفاتري –التي أخترتها بعناية مع صور حيوانات جميلة عليها— إلى بيتها وعليها صور أرواح، فـ"تطوعت" الطالبة بالقيام بعملية إعدام جماعية لكل صوري برسم خطوط حادة على رقابها حتى تتمكن من نقل المسائل من على جثث هامدة!
قد تبدو هذه القصص غير ذات أهمية وربما طريفة بعض الشيء. ولكن الشيء غير الطريف فيها هو طريقة التفكير التي تقبع خلفها. إنها إيقاف تام للعقل مقابل إعطاء قدسية كاملة لنصوص مشبوهة. والشيء المرعب أكثر هو عندما نجد أن هذه الطريقة في التفكير والتعامل مع الدين تُصّدر لأرجاء الأرض وتتجاوز مسائل مضحكة إلى قضايا مصيرية من حياة وموت وانهيار أوطان وازدهارها.
وعندما نستغرب نحن عباد الله هذه التناقضات، نحن الذين لا لقب شيخ وشيخة نملك ولا عمامة أو غترة على رؤوسنا نحمل، يأتينا الرد بأن نصمت. يقول الشيخ عبد الكريم بكار "أما من ليسوا من أهل الاجتهاد فيعودون إلى أهل العلم. إذا مرضت تقرأ في مناهج كلية الطب أو أنك تذهب إلى طبيب؟" إذا كان من يقصد بهم أنهم "أهل العلم" من أمثال "فقيه رجل الثلج" فليعذرني لأنني لن أسلم عقلي وديني لمن يعتقد أن اللعب بالثلج هو مسألة عقيدة ودين. الأمر الآخر، إن وضعنا كمسلمين لا يسر على أقل تقدير، فالعالم العربي الإسلامي يرزح تحت نير الاستبداد والجهل والفقر. وحتى الآن لم يستطع من يدعوهم الشيخ بـ "أهل العلم" أن يقودوا أي حراك يخرج بالأمة من أزمتها. فهم مشغولون، ويحبون أن ننشغل معهم، في قضايا فقهية تعود إلى القرن التاسع الميلادي وما زالوا غير قادرين على دخول العصر الذي تجاوز الكثير من هذه القضايا ويتطلب أسئلة أعظم على تحديات كبرى. أما بالنسبة لمن يذهب لرؤية الطبيب عندما يمرض فهذا يعود إلى أن الطبيب على صلة بآخر إضافات العصر على مهنته. هل يقبل الشيخ بكار مثلا بأن يأخذ أحد أولاده إذا التهبت زائدته الدودية إلى من يعالج بكتب الطب النبوي أو حسب وصايا ابو بكر الرازي، أم أنه سيهرع به إلى طبيب عصري يستخدم أدوات هذا العصر؟ ونحن كذلك، لا نريد أن نعود إلى مشايخ يستخدمون أدوات القرون الغابرة وآبائنا الأولين ليخبرونا كيف نعيش حياتنا ونتعامل مع ديننا في القرن الواحد والعشرين.
&&& المشكلة أن هذه العقلية تلاحقنا حيثما ذهبنا، حتى هنا بين ثلوج كندا. فقبل أيام دُعيت قريبة صغيرة لي للغداء مع أطفال جيرانها المسلمين وعندما بدأت بتناول طعامها بيدها اليسار بما أنها عسراء قال لها الأهل المضيفون إنها يجب أن تتناول طعامها باليمين لأن الشيطان سيأكل معها إن لم تفعل، لأن الحديث يقول "يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك."
ما قاله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لذاك الطفل في ذاك السياق، إن صح الخبر، هو ما يمكن أن يقوله أي شخص منا لطفل يلهو بالطعام ليعلمه آداب الطعام. ولكن نحن، ولأننا قدّسنا النص، باتت آداب الطعام عندنا عقيدة نصرف فيها الحلال والحرام تلهي حتى الشياطين بينما قضايا العدالة الكبرى وحقوق الأطفال وحقوق المرأة وحقوق كل المستضعفين قد صارت قضايا بعيدة فيها وجهة نظر. وفكرة أن الشيطان جالس يتعشى مع أطفال أبرياء بدل أن يكون برفقة المجرمين وقاتلي الأطفال يوضح أزمة فقهنا الجديد. فلا غرابة إذا أن يكون "رجل الثلج" في مثل هذا الفقه أخطر على العقيدة من انتهاكات حقوق الإنسان. قال المسيح عليه السلام لمن حوله "وإنما جُعل السبت للإنسان، وليس الإنسان للسبت" ليعلمهم أن الإنسان هو المقدس وأن القانون إنما هو لخدمة الإنسان وليس العكس. جل مشايخ المسلمين جعلوا الإنسان من أجل الفقه بدل أن يكون الفقه من أجل الإنسان. والأدهى أن الفقه تحول لأداة تُستعمل لقمع حرية الرأي وتهميش المرأة والطفل ومساندة السلطان المستبد—حيث يرتكز في معظمه على نصوص وأحكام تم وضعها قبل عدة قرون. ويعتري الكثير من المسلمين الرعب إن قلنا إنه يجب إعادة النظر في كل هذه النصوص، وأن الفقه تاريخي خاص بأزمنة وأمكنة معينة. فالعديد منهم يخافون أن يظهر أن الله عز وجل قد أخطأ أو أن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يدرك الحق. وكأن الله أو رسوله يمكن اختزالهم في نصوص. إن من يخاف على الله ورسوله من إعمال العقل وتشغيله يسيء الظن بالله وبرسوله وبالعقل.
نصيحة الشيخ أن نترك ديننا لـ "أهل العلم" ليست مقبولة لأنها تتنافى مع القرآن الذي يأمرنا بالتفكر والتأمل وإعمال العقل وعدم اتباع الآباء. وهي نصيحة لا تخلو من مخاطر لأنها تعادي من يتساءل وبهذا تبعده شيئا فشيئا حتى يصبح المرء أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يسلم عقله لرجال الدين ويستسلم لنسخة الإسلام الذي يفرضونه بكل ما فيه من متناقضات ومن حرفية نصية تجعل الإنسان بلا قيمة أمامها، وإما إن أراد التمسك بعقله فعليه أن يتنازل عن الله ورسوله لهؤلاء القابعين على رفوف التاريخ.
ولكن هناك طريق آخر ويجب أن لا نخاف منه.
هناك طريق نمشي ونتحرى الحق فيه مستفيدين من نعمة العقل والضمير ومستأنسين بنعمة الماضي وعبره لا مكبلين بأغلاله.
لقد أرانا والدي أن حبه للرسول الكريم ثابت وأن ثقته بنزاهة وأخلاق وصدق محمد لا تتأثر بأي تساؤل عن النصوص التي بين أيدينا. طوال عمري وأنا أراه وأسمعه يحلل ويتساءل ويكتب عن مشكلة النصوص ومشكلة العقل الإسلامي المتجمد ولم يزده كل هذا التساؤل والبحث إلا التزاما ومحبة لدينه الجميل. كان مثالا حيا عن أن الإيمان الحقيقي هو الإيمان المشبع بالحب لله الذي يتجلى في الإخلاص للإنسانية، وليس العكس من تضحية بالإنسانية في سبيل الله كما يريد "أهل العلم" القاصرين حاليا والمنشغلين بـ "رجل الثلج" وعشاء الشيطان!&
&