من مفكرة سفير عربي في اليابان
لفت نظري تعليقات بعض& القراء الاعزاء على رسالة على الوتس أب من صديق، نشرت في مقال سابق تقول: "هناك أسباب لتقدم اليابان، ويمكن أن تحدد في عشرة أسباب. ففي ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻥ ﺗﺪﺭﺱ ﻣﺎﺩﺓ ﻣﻦ ﺃﻭﻟﻰ ﺍﺑﺘﺪﺍﺋﻲ ﺇﻟﻰ ﺳﺎﺩﺳﺔ ﺍﺑﺘﺪﺍﺋﻲ ﺍﺳﻤﻬﺎ ﻃﺮﻳﻖ ﺇﻟﻰ ﺍﻷﺧﻼﻕ، ﻳﺘﻌﻠﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟتلاﻣﻴذ ﺍﻷﺧﻼﻕ ﻭﺍﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ولا ﻳﻮﺟﺪ ﺭﺳﻮﺏ ﻣﻦ ﺃﻭﻟﻰ ﺍﺑﺘﺪﺍﺋﻲ ﺇﻟﻰ ﺛﺎﻟﺚ ﻣﺘﻮﺳﻂ، ﻷﻥ ﺍﻟﻬﺪﻑ ﻫﻮ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ، ﻭﻏﺮﺱ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻢ، ﻭﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ، ﻭﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻭﺍﻟﺘﻠﻘﻴﻦ. وﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﻮﻥ، ﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺃﻧﻬﻢ ﻣﻦ ﺃﻏﻨﻰ ﺷﻌﻮﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻟﻴﺲ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﺧﺪﻡ، ﻓﺎﻷﺏ ﻭﺍﻷﻡ& والاولاد هم المسئولون ﻋﻦ ﺍلبيت ونظافته. وﺍﻷﻃﻔﺎﻝ ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﻮﻥ ﻳﻨﻈﻔﻮﻥ ﻣﺪﺍﺭﺳﻬﻢ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﻟﻤﺪﺓ ﺭﺑﻊ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻊ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻴﻦ، ﻣﻤﺎ ﺃﺩﻯ ﺇﻟﻰ ﻇﻬﻮﺭ ﺟﻴﻞ ﻳﺎﺑﺎﻧﻲ جاد، وﻣﺘﻮﺍﺿﻊ، ﻭﺣﺮﻳﺺ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﻈﺎفة، كما أن اﻷﻃﻔﺎﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺪﺍﺭﺱ ﻳﺄﺧﺬﻭﻥ ﻓﺮﺵ ﺃﺳﻨﺎﻧﻬﻢ ﺍﻟﻤﻌﻘﻤﺔ، ﻭﻳﻨﻈﻔﻮﻥ ﺃﺳﻨﺎﻧﻬﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﺑﻌﺪ ﺍﻷﻛﻞ، ﻓﻴﺘﻌﻠّﻤﻮﻥ ﺍﻟﺤﻔﺎﻅ ﻋﻠﻰ ﺻﺤﺘﻬﻢ ﻣﻨﺬ ﺳﻦ ﻣﺒﻜﺮﺓ. وﻣﺪﻳﺮﻭ ﺍﻟﻤﺪﺍﺭﺱ ﻳﺄﻛﻠﻮﻥ ﺃﻛﻞ ﺍﻟﺘّﻼﻣﻴﺬ، وﻗﺒﻠﻬﻢ ﺑﻨﺼﻒ ﺳﺎﻋﺔ، ﻟﻠﺘﺄﻛﺪ ﻣﻦ ﺳﻼﻣﺘﻪ،لأنهم ﻳﻌﺘﺒﺮﻭﻥ ﺍﻟﺘﻼﻣﻴﺬ ﻣﺴﺘﻘﺒﻞ ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ يجب ﺣﻤﺎﻳﺘﻪ، و ﻋﺎﻣﻞ ﺍﻟﻨﻈﺎﻓﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻥ ﻳﺴﻤﻰ "ﻣﻬﻨﺪﺳﺎ ﺻﺤﻴﺎ"، ﻭﻳﺨﻀﻊ ﻗﺒﻞ ﺍﻧﺘﺪﺍﺑﻪ لاﺧﺘﺒﺎﺭﺍﺕ ﺧﻄﻴﺔ ﻭﺷﻔﻮﻳﺔ. و ﻳﻤﻨﻊ الحديث في ﺍﻟﺠﻮﺍﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻄﺎﺭﺍﺕ، ﻭﺍﻟﻤﻄﺎﻋﻢ، ﻭﺍﻷﻣﺎﻛﻦ ﺍﻟﻤﻐﻠﻘﺔ. وإذا ﺫﻫﺒﺖ ﺇﻟﻰ ﻣﻄﻌﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻥ، ﺳﺘﻼﺣﻆ ﺃﻥّ ﻛﻞّ ﻭﺍﺣﺪ ﻻ ﻳﺄﺧﺬ ﻣﻦ ﺍﻷﻛﻞ ﺇﻻّ ﻗﺪﺭ ﺣﺎﺟﺘﻪ، ﻭﻻ ﻳﺘﺮﻙ ﺃﺣﺪ ﺃﻱّ ﺃﻛﻞ ﻓﻲ ﺻﺤﻨﻪ، وﻣﻌﺪﻝ ﺗﺄﺧﺮ ﺍﻟﻘﻄﺎﺭﺍﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻥ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻫﻮ 7 ﺛﻮﺍﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻨﺔ، لأنه ﺷﻌﺐ ﻳﻌﺮﻑ ﻗﻴﻤﺔ ﺍﻟﻮﻗﺖ، ﻭﻳﺤﺮﺹ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺜﻮﺍﻧﻲ ﻭﺍﻟﺪﻗﺎﺋﻖ ﺑﺪﻗﺔ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ. وفي اليابان من يأتي مُبكراً للعمل يقف بـسيارته بعيداً، و يترك المواقف القريبه للمُتأخرين حتى يلحقوا بـالعمل .وفي اليابان في مدخل العاصمه، يوجد لوحة كبيرة مكتوب عليها "ايها الانسان فكر لتبدع". ويختتم صديقنا رسالته بالقول: "كل هذه المعاني الجميلة جاء بها ديننا الحنيف، فأخذوا بها اليابانيون، ونجحوا، ونحن أهملناها، فخسرنا الكثير من خيرات الدنيا والآخرة." (انتهى).
وقد علق بعض القراء الأعزاء على هذه الرسالة، فلنقرأ خمسة من هذه التعليقات معا في الجزء الأول من المقال، ثم نحاول أن نتحاور حول استنتاجاتها في الجزء الثاني، من خلال مناقشة كتاب جديد، بعنوان، حقول الدم-الدين وتاريخ العنف،& للمؤرخة البريطانية، كارن ارمسترونج، المتخصصة في العلوم الدينية وتاريخها. فلقد كتب المعلق الأول (مسلم)، باللغة الانجليزية، يقول: "وها نحن نكرر مرة اخرى، اليابانيون يتبعون الاسلام الحقيقي، بل نسمع وحتى اللانهاية، الاوربيون يتبعون الاساسيات والقيم الحقيقية للإسلام،& بينما العرب والمسلمين، لا يطبقون القيم الحقيقية للاسلام. ألا يدرك العرب والمسلمين بأن الشيء الوحيد الذي يعرفونه اليابانيون، والغربيون، والصينيون، وجميع الغير مسلمين في العالم عن الاسلام، هو الارهاب& المرتكب من قبل بعض المسلمين، بينما يعتبرون باقي المسلمين مجموعة من الجبناء، لم يستطيعوا مواجهة الارهاب في مجتمعاتهم. ومن المحزن، بل المأساة بأن المسلمين لا يدركون ان هناك قيم، واخلاقيات، وآداب سلوك تطورت في اليابان، والصين، والهند، ودول الغرب، والمجتمعات الاخرى، التي طورت نظمها الاخلاقية، وقيمها المجتمعية، وآداب سلوكها، وليس لها اية علاقة بالإسلام. لقد حان الوقت لكي يستيقظ العرب والمسلمون من سباتهم، ليدركوا بان الاسلام هو شيء عربي، ويؤثر فقط على قيم، وأخلاقيات، وسلوك، وآداب، فقط العرب والمسلمين. ارجوكم استيقظوا لمصلحتكم." (انتهى).
بينما علق الأخ الثاني فقال: لا مرتين يا سعادة السفير. كل هذه المعاني الجميلة جاء بها ديننا الحنيف، فأخذوا بها اليابانيون، ونجحوا، ونحن أهملناها، فخسرنا الكثير من خيرات الدنيا والآخرة. هذا الكلام يفكرنا بقول الامام محمد عبده، حينما زار فرنسا ورجع الى مصر وقال: فى فرنسا وجدت اسلاما، ولم أجد مسلمين، وفى مصر وجدت مسلمين، ولم أجد اسلام .. بالطبع هذا الكلام عنصرى من الدرجة الأولى، وللأسف يردده من بعده الذين امنوا دون لحظة توقف للتفكير، ولا يختلف سفير عن غفير .. لم يشأ أن ينسب الفضل لأصحابة، بل نسبه الى الإسلام، مع أن فرنسا أو اليابان لا يعرفون الاسلام.. والمسلمون لديهم الاسلام منذ 14 قرنا، ولم ولن نراهم قريبون من فرنسا أو اليابان، بل يشتمون هذه البلاد، ويتطاولون عليها ليل نهار، ولكن يستكثرون عليهم حضارتهم، بفضل أخلاقهم، وانضباطهم، واجتهادهم، وينسبونها للاسلام .. مصيبة.. مصيبة. إذا إبليتم فاستتروا، ولا داعى لسرقة الفضائل من أصحابها، ونسبها (لنا).. كفى.. كفى." (انتهى).&
ويعلق القارئ الثالث فيقول: "وهذا يشبه بالضبط ما قالة الامام محمد عبده بعد عودتة من فرنسا: رأيت فى فرنسا اسلاما، ولم أرى مسلمين، وفى مصر مسلمين، ولم أرى اسلام.. سيادة السفير كيف عرف الفرنسيون واليابانيون ما بالقران (الكريم) وأنتم لم تعرفونه حتى تاريخه؟ نفس السؤال توجه به الدكتور خالد منتصر - طبيب مصرى مسلم - للدكتور زغلول النجار، زعيم الاعجاز العلمى فى القران، فسأله: كلما اخترع الغرب شيئا نقول لهم أن هذا الاختراع موجود بالقران (الكريم)، ولكن لماذا لا نبادرهم أولا بالاختراع، حيث أن القران (الكريم) لدينا منذ 14 قرنا؟ سيادة السفير اليس من الأفضل نسب الفضل لأصحابه؟ ولا داعى للادعاء بأن كل شيء موجود فى القران (الكريم) والآخرون أخذوه منا؟ لماذا لا نقول الحقيقة بأن اليابان لا يعرفون القران، ولا الانجيل، ولكن لديهم منظومة أخلاقية وقانونية محترمة؟ هل باقى الأديان لا تعلم النظام والنظافة؟ لماذا لا نقول أن الله (جلت عظمته) خلق البشر عقلاء، وناطقون، وترك لهم ليقرروا تنظيم حياتهم، ولذلك ننبغ ونتقدم، حينما لا نكبل بقوانين عنصرية باليه؟ سيادة السفير هل المسيحية فى الغرب عرقلت تقدم الغرب ونظامهم ونظافتهم؟ سيادة السفير ننتظر منك مقالا أكثر انفتاحا وأكثر واقعية. ثم أن أعمال داعش، يا سيادة السفير، لها أصول فى التراث الإسلامى.. سيادة السفير، أنت وأمثالك هو الأمل فى التغيير والتقدم، وهذا لا يأتى ألا بالإعتراف الكامل والحقيقى بالمشكلة، ومحاولة حلها، بدلا من الهروب منها.. مع تحياتى." (انتهى).
كما كتب المعلق الرابع يقول: "يا سيد السفير، لو كان خطباء الجمعة قادرين ان يحللوا في السياسة والاقتصاد، كما تدعي، لكنا فرحنا بهم اشد الفرح، الشيء الذي يفعلونه، هو نشر الكراهية، والحقد، والإرهاب في نفوس المسلمين. يا ليتهم كانوا بهذا الادب السياسي، لكنا تطورنا، وما كان العالم كله يطبق، ما انت تعتقد او في خيالك بأنه من الإسلام، من دونكم هذا الإسلام، الذي لم يستطع المسلمون، على مدى 1400 سنة، ان يطبقوه، لم يصنعوا غير القتل، والتخريب، واحتلال الدول، وجر الخراب إليها، وتدمير حضارتها ." (انتهى).
ويعلق القارئ الخامس بقوله: "يا عم، الدكتور حسن يقصد أن اليابانيين أتبعوا مبادئ أخلاقية راقية، وهذه المبادئ، لا تختلف عن المبادئ التى جاء بها الدين الإسلامى، ولا يقصد أنهم نقلوا هذه المبادئ عن الإسلام. والدكتور حسن أفترض أن قراء المقال عندهم الذكاء لفهم ذلك دون الحاجة للتركيز على التفاصيل. أنا شخصياً لا أتفق مع الكاتب، وأعتقد أن المبادئ الأخلاقية الراقية تخطت ما جاءت بها الأديان، ويجب ألا نجعل من الأديان، وحتى بأفضل التفسيرات، حاجز يمنعنا من الأرتقاء بالقيم الإنسانية لأفاق أعلى." (انتهى).
ليسمح لي عزيزي القارئ أولا أن اشكر الأخوة القراء على تعليقاتهم، وثانيا لنبدأ الحوار على التعليقات السابقة علينا طرح الاسئلة التالية: هل القيم البشرية هي نتيجة تجارب إنسانية متراكمة على مدى ألفيات طويلة، أم هي من حق أمة ما، لتدعي بأنها هي التي تعرف الحق، وتملك الحق، وأن هذا الحق هو الذي سينقذ البشرية من الضلال؟ ألم يتطور المخ البشري خلال الخمسمائة مليون سنة الماضية من عقل بدائي غريزي، إلى عقل أنساني تعاطفي، ومن ثم إلى عقل تفكير منطقي؟ ألم تتطور الحضارة البشرية بعد معاناة طويلة من الظلم والعنف والقتل؟ كيف بنيت الأهرام في زمن لم يكن فيه تكنولوجية الرافعات والمواصلات؟ ألم يمثل العبيد 90% من شعب روما؟ ألم تتطور التجربة الإنسانية تدريجيا، لتجمع بين حضارات عديدة، ورسالات متنوعة، واديان مختلفة؟ ألم يخلق الخالق، جلة عظمته، الشعوب متباينة ومتنوعة، لتتعرف على بعضها البعض، وتتعايش مع بعضها البعض، بود، وتالف، وتناغم، وتجانس، وأمان، وسلام، لتزدهر على كرتنا الأرضية بلدان امنة، لتسعد فيها البشر وتتكاثر؟ ألم تنبثق الأديان من حاجة الإنسان لفهم سبب وجوده، ليرتبط ذلك بقيم إنسانية جميلة؟ ألم تمر المجتمعات البشرية بمرحلة ما قبل العصر الحجري، والتي تميزت بمهارة الصيد، للعصر الزراعي الذي تميز بفائض الموارد الغذائية، وخلق رأسمال، وبدأ ارستقراطية النخبة؟ ألم تلعب هذه النخبة دورها في تطور العلوم والفنون والتكنولوجية الصناعية؟ وأين كان موقع رجال الدين في تطور مفهوم النخبة والدولة الحديثة؟ وهل فعلا سبب التطرف والحروب هو الدين؟ هل كانت الحربين العالميتين والحرب الباردة حروب دينية أم علمانية؟ وهل فعلا الدين هو السبب في التطرف والإرهاب والحروب التي نعيشها اليوم؟ وهل من المهم فهم دور الدين بدقة في الضمير الانساني في عالم العولمة الجديد؟& ولنا لقاء.
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان
التعليقات