فرار الرئيس منصور هادي من إقامته الجبرية في صنعاء إلى عدن جاء بعد أيام قليلة من تكرار مشهد رحيل الجنود والدبلوماسيين الأمريكيين مغلقين سفارتهم في اليمن، حيث قفز مشاة البحرية باتجاه الطائرات المستعدة للإقلاع على عجل حاملين معهم ما لا يمكن أن يبقى هناك ومغادرين لأخر مرة دون وداع ليجسد مرحلة جديدة من فشل مغامرات خاضتها واشنطن سياسيا وهزمت فيها في كل الاتجاهات.
&
ما يقارب أربع سنوات بين بداية الحراك الأمريكي ضد نظام علي عبد صالح ورحيل أخر دبلوماسي عن سفارة واشنطن، مرحلة تختزل بداية ونهاية حلم الفوضى الخلاقة في اليمن وتكسره وانهياره في المنطقة التي تشهد تحول الربيع إلى خراب.
&
واشنطن صديقة نظام الرئيس صالح لم تكلف نفسها الكثير من العناء لتحريك جماعة الإخوان المسلمين لينقلبوا ضد شريكهم في حكم اليمن ويتحركوا مستغلين سنوات حكمه الطويلة التي جسد فيها كل مساوئ التفرد لينقلبوا عليه.
&
سنوات حكم صالح لليمن عصية على التقييم ولم تخرج في نهاية المطاف عن تقسيم موارده مثل كعكة بين القبائل، الفقر والجهل وغياب الخدمات، أشياء تفوق الوصف في بلد يملك موارد كبيرة وموقع استراتيجي نادر، والوحدة بالقوة بين الجنوب والشمال لم تحقق أكثر مما سبقها من تجارب وحدوية عربية، وعمقت أزماتها المرحلة الانتقالية التي تلت سقوط نظام صالح والمتميزة بتغلغل تنظيم القاعدة في مناطق الجنوب وفرض هيمنتها في مناطق كثيرة، مما يمهد لانفصال الجنوب ولكن تحت حكم القاعدة بدلا من الحزب الاشتراكي.
&
بركات الربيع العربي لم تخرج واشنطن من اليمن فقط بل ستعيد صياغة توازن دولي دقيق ومعقد في منطقة بحر العرب وباب المندب وستجعل واشنطن تضاعف من تواجدها العسكري في جيبوتي التي توجد فيها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في إفريقيا ومنها تتم عمليات قصف مواقع تنظيم القاعدة في اليمن بالطائرات الموجهة عن بعد، مما سيرفع من مستوى التوتر ومخاطر توسع مساحة حركة الجماعات الإرهابية في بحر العرب وباب المندب.
&
نجاح الحوثيين في السيطرة على صنعاء كسر التوازن القبلي وأنهى هيمنة شيوخ قبائل حاشد المنضوين تحت راية الإخوان على المشهد السياسي، وبدء بإعادة تشكيله بشكل مختلف والذي سيواجه تحديات كبيرة وعراقيل محلية وإقليمية تجعل من النجاح أمر بالغ الصعوبة ويفتح باب الفوضى والحرب الأهلية على مصراعيه لسنوات طويلة قادمة.
&
التحديات التي ستواجه اليمن خطيرة ومعقدة وانعكاساتها الإقليمية والدولية كبيرة في ظل مخاوف التفتت لعدة أقاليم ومشاريع دول قد يصل عددها لستة، ورهانات إقليمية تريد بقائه في الفوضى والتخلف على أمل استمرار هيمنتها على تحالفاتها القبلية التقليدية فيه دون اهتمام بالمخاطر الكبيرة والغير محسوبة العواقب المهددة للأمن والاستقرار والسلام الدوليين.
&
حصاد واشنطن المر في اليمن تجسد في انسحابها من الساحة بعد أن كانت لفترة تحدد تفاصيل مجرياته السياسية وتخطط لغد المنطقة، لكن تغير المشهد بشكل فاق قدرة إدارة الرئيس أوباما على استيعاب تفاصيل المناطق التي تضع برامج تغيير أوضاعها حسب دراسات تعدها مراكز أبحاثها التي في كل مرة تنال نتائج مختلفة شكلاً ومضموناً دفع بمستقبل اليمن نحو مجهول تتحكم فيه الكثير من القوى المتحالفة مع جهات ركبت موجة المشروع الأمريكي وجهات عارضت وصولا لقوى رفضت هده المشاريع وخلقت بدائل مختلفة على الأرض.
&
انفجار حالة الفوضى اليمنية سيضع مشكلة ضمان عدم التهديد بإغلاق باب المندب بوابة التجارة البحرية العالمية بين الجنوب والشمال على أجندة جميع دول العالم، والجماعات الإرهابية في اليمن والصومال ستجد في انهيار الدولة في صنعاء فرصة سانحة للانتقام من أعدائهم الكثر، أزمة لم يتوقعها صناع الربيع العربي في شمولية رؤيتهم لواقع المنطقة.
&
البحث عن حل سياسي ينقذ ما تبقى سيكون معجزة لا تمتلك الأطراف الدولية والكثير من الأطراف الإقليمية والمحلية قدرة أو فرصة الوصول لها، وفي انتظار سنوات من الفوضى والعنف يدخل اليمن السعيد مرحلة ستطول قبل إعادة صياغة شكل جديد يختلف عن السابق.
&
واشنطن تثبت مجدداً عجزها عن فهم واستيعاب عالم ما وراء المحيط، وتخرج تاركة ورائها نتائج جهلها وغطرستها وتترك الساحة التي كانت تراقب وتتابع منها أوضاع منطقة عالية الأهمية الإستراتيجية في العالم من أجل مغامرة وأوهام ستكلف المنطقة والعالم الكثير من الخسائر، وبعد انسحابها من الصومال تخرج اليوم من اليمن تاركة للجيش الأمريكي إدارة معركة سيفشل بتحقيق نصر فيها بطول المدة.
&