يقول الكاتب الأمريكي الشهير مارك توين: "تأتي من الأطفال أمور مفيدة ومثيرة للإهتمام... فهم يكتبون بشكل مُبَسط وطبيعي، بعيداً عن الضغوط... يقولون كل ما يعرفون ثم يتوقفون."

ومن "يتوقفون" أبدأ قصتي القصيرة مع ابنتي الصغيرة. هو صباح كان من المفترض أن يكون عادياً كأي صباح أوصل فيه ابنتي إلى مدرستها حيث أننا نتبادل المزاح والأغاني أو تُسمِّع لي ما حفظته من قصائد قصيرة وإلى ما هنالك من أمور متعلقة. ولكنها على غير عادتها قررت في ذلك اليوم ترك كل هذا والتأمل من نافذة السيارة، ثم التفتت فجأة إليَّ وأشارت بأصبعها إلى قصر كبير ومَهيب وقالت: "ما هذا؟" فابتسمتُ وجاوبتها بالإنجيليزية: "هذا قصر"، فسارعتني بسؤال ثان: " ومن فيه؟" فأوضحت لها بأن من فيه هم أناس مثلنا، فتَعجبت وقالت: "لماذا؟"، فاستفسرتها مُتعجباً بدوري "ماذا تقصدين!؟" فأجابتني والدهشة تعلو وجهها: "لماذا يحتاجون إلى هكذا مكان! ألن يكونوا سعيدين إذا ما سكنوا في بيت كبير كالذي نسكنه؟ لماذا يحتاجون إلى أكبر!؟ ثم صارت تردد تِباعاً وبطريقة طفولية: "لماذا؟.. لماذا؟..."

وبينما هي كذلك أحسستُ بِوَقع كلمتها على أذني كوَقع ساعة متدلية تلوح أمام عيني لتغرقني في نوم مغناطيسي. (وهنا أعود للإقتباس الأول) فما لم تكن تُدرِكه ابنتي "بأنها وبكل بساطة قالت كل ما تعرف ثم توقفت." وبالتزامن كأنما كل شيئ قد توقف حولي وبتُ سجين خواطري وأفكاري التي لا أريد إطلاق سراحها أمامها في هذه اللحظة. فقط التفاتات يسيرة نحوها وهي تترقب جنبات الطريق مجددا من النافذة بعدما استَسْلَمت لصمتي وعجزي عن إجابتها.

ببساطة، ما أعجزني هو ذلك السؤال البسيط الذي يقبع تحته جواب بالغ في التعقيد لمن هم في عمرها، فكيف سأشرح لها ماهية سير الحياة بالنسبة للكثيرين. وها أنا ألتفت إليها مرة أخرى وأقول لها في نفسي: "أمِن سُكناهم لقصر تتعجبين! ماذا عساني أجيبكِ! لقد أخجلتني! تمهلي، فإنكِ لم ترين شيئا من هذه الحياة بعد! فكيف بي إذا أخبرتكِ:

أن هناك رجلاً أنفق 250 ألف دولار على خياطة ثوب من الذهب الخالص يفوق وزنه الـ3 كيلوغرام مع أنه غالبا سيُدفن شبه عريان! وإنْ أوْصى بدفنه معه فلن يَمْنع الدود عنه!

وأن هناك امرأة أوصت عند موتها بالتنازل عن كامل ثروتها المُقدرة بـ10 مليون استرليني لقطتها الأليفة!

أأقول لكِ أنه يوجد قطع حلوى يستغرق إعدادها أسابيع، مصنوعة من أوراق ذهب عيار 24 قيراط يفوق ثمنها الـ1000$ وتُقدم للأكل على طبق من الذهب الخالص! بل الأمر يا ابنتي لم يقف عند هذا الحد لأن أحدهم قرر الدخول في دائرة المنافسة وصَمم قطعاً من الشوكولا محشوة بالذهب والألماس، يفوق سعر القطعة الواحدة منها الـ34 ألف دولار!!!

أو هل أقول لكِ أن هناك كوب من القهوة يبلغ سعره الـ70 دولاراً وهو مصنوع من براز الأفيال! وأن هناك نوعاً معيناً من القطط "تقوم ببلع حبات بن ولأن معدتها عاجزة عن هضمها، فإنها تتغوطها كاملة مما يَمنح القهوة نكهة فريدة." كما يقول واصفي ومحبي قهوة "كوبي لواك" الذين يتباهون بأنها الأغلى ثمنا في العالم!

ثم إليكِ هذه الحقيقة العلمية، فهل تعلمين أنهم مهما غالوا في مأكولاتهم وإلى أي حد وصلوا، فلن تَرْشَح أجسادهم ذهبا سائلا ولن يبيضوا اللؤلؤ والمرجان! بل على العكس فإن أفخم ما أكلوه وتفاخروا بإدخاله إلى أفواههم أمام الناس، سيتحول إلى أكثر الأشياء التي يَعافونها ولا يوَدون رؤيتها بالمرة بل سيحاولون جهدهم لكي يخرجوها ولكن هذه المرة ليس أمام الناس بالتأكيد! أما الصدمة وعلى الرغم من هذه المعاني الجلية، فقد بات متوفراً في الأسواق "ورق تواليت" مصنوع من ذهب ويبلغ سعر اللفة أكثر من مليون دولار!!

عزيزتي.. ابنتي.. بساطتك كانت ككنز في صندوق ما إن فُتِح أمامي حتى أذهلني شدة توهجه وأنا الذي لم يَعتد على رؤية "الكنوز!" ولكن الدنيا مليئة يالتعقيدات والحوادث غير المفهومة والمحيرة وأخاف عليك منها أن تغتال فيك تلك البساطة، لأنني أريدها أن تلازمك ولا تَسقط عند صدمات الحياة!

ابنتي.. عزيزتي.. لا تُسيئي فهمي، فأنا لا أهاجم الأثرياء؛ فكم من ثَري هو"غني"! ولربما يوجد في القصور مَن بَعد موتهم نُوِرت لهم القبور. ولربما أريد أن أراك كأميرة تَتغنى بقيَمها الصحف والمجلات أو كملكة تعيش في قصر بُنِيَ من المجوهرات، وإني لأعلم بأن هذا حلم الكثير من الآباء، ولكن فليكن عرشكِ دوماً قلوب الفقراء.