&

هذه ليست دعوة للسلطوية، بقدر ما هي دعوة لتأهيل الشعب، قطاعات واسعة منه، لإتباع آليات معبرة عن الإرادة الوطنية، والضمير الجمعي للمجتمع. لقد أكدت الثورات أو الانتفاضات، التي شهدتها دول المنطقة العربية، ولن أقول الشرق أوسطية، أن قطاعات واسعة من الجماهير، ليست علي درجة واعية من الإدراك والعمل السياسي. والأهم أنه لا يوجد ثقة بين القاعدة الجماهيرية، والنخبة "العجوزة" أو حتى الشبابية، التي برزت خلال تلك الأحداث الجذرية.

يجب أن نعترف كلنا أن هذه الأحداث الجذرية قسمت المجتمعات العربية، سورية واليمن وليبيا، مع فارق كبير مصر (رغم الكراهية الدفينة بين أنصار الإخوان والمتعاطفين معهم من ناحية، وقطاع الأغلبية المؤيد لثورة 30 يونيو وظهيره غير المنطقي من السلفييين –كمعادل برجماتي أمام الخطاب الإخواني-.&

ويدهشني البعض عندما يتحدث عن ديمقراطية الدول العربية، فهذه الديمقراطية، فاسدة، لاعتبار أصيل، يتمثل في التمويلات الخارجية، التي توجه لمنظمات بعينها للمطالبة بمزيد من الإجراءات – المسماه الديمقراطية – ولذا فهي ديمقراطية فاسدة، لأن القطاعات الواسعة من الشعب لا تشارك فيها بإرادتها ووعيها، لتعبر عن اختياراتها الحقيقية أمام الصندوق الإنتخابي.

الديمقراطية في الغرب أمر مختلف كلية. المواطن هنا سيد القرار.. لا يشغل باله يوميا، بالأمر السياسي، وبل همه الأول والأخير هو الحصول علي فرصة عمل، وتحقيق مستوى من الدخل الإيجابي، بمعني آخر أن يكون مشاركا في عملية التنمية والنمو، ومستفيدا منها. فنادرا ما تجد مثلا هنا في كندا مواطنا يتحدث في السياسة، إلا إذا كانت النخبة على المستوى الإقليمي –إذ تتكون كندا من 10 أقاليم- أو المستوى الفيدرالي لحكومة المحافظين، قد اتخذت قرارا يؤثر علي قطاع معين، المدرسين أو عمال قطاع البناء أو الأدوية والصيادلة، وغيرها من الفئات. هناك تجد التحرك مؤسسي جماعي للنقابات والجمعيات المعبرة عن حقوق هذه الفئات وهي تمتلك من الأعضاء ما يكفي لتنظيم مظاهرات ومسيرات سلمية، تعبر عن حركة ضغط تخشاها الحكومة.&

لماذا لأن هذا المواطن هو من يدفع الضرائب، الرافد الأكبر لإيرادات الحكومات الإقليمية والحكومة الفيدرالية.&

لكن في مجتمعاتنا العربية ومصر، تحولت السياسية إلى "لقمة عيش" و "سبوبة" للبعض، وليست مجالا عاما يتحرك فيه أصحاب المصلحة، من المدرسين أو سائقي التاكسي أو الصيادلة، أو الطلبة أو غيرهم، عندما تتعرض مصالحهم للضرر جراء اتخاذ الحكومة لسياسات معينة.

ورغم غياب الثقة بين المواطن المصري والعربي في النخبة السياسة صانعة القرار في المؤسسات الحكومية، والتنظيمات السياسية ومنها الأحزاب، تجد أن هذه النخبة لا تتغير، وقابعة على مقاعدها منذ سنوات طويلة.

لا يعني هذا بالضرورة أن الديمقراطية الغربية أو الكندية منزهة عن أى شوائب، إذ تنتشر علي سبيل المثال في الأوساط السياسية المحلية في الكيبيك وتحديدا مونتريال قضايا فساد ورشوة في أحد أهم القطاعات، وهو قطاع البناء والمقاولات والتشييد، الذي يسيطر عليه الكنديون من أصول إيطالية، أصحاب سلوكيات المافيا. وهناك قضية شهيرة معروفة باسم قضية شاربونيه، حيث حصل بعض الموظفين المحليين في مونتريال علي مبالغ مالية ضخمة جراء منح مناقصات كبيرة لرجال أعمال كنديين من اصول إيطالية.&

يلعب الإعلام هنا دوره بنزاهة في رصد هذه الحالات، وتوعية الرأي العام بها، والمواطن يثق في لجنة التحقيق، والنتائج، التي ستتوصل إلها. عكس الحال في مصر، هناك غياب شبه تام للثقة بين ما أصبحوا يسموا بالناشطين، وصانعي القرار. وكثرة وسائل الإعلام الخاصة والمستقلة في مصر أصبحت أحد أسباب البلبلة، إذا أننا نطبق دون أن نفهم الدلالات. فالكيبيك، إحدى أكبر الاقاليم من حيث المساحة والسكان في كندا، ويصل تعدادها لحوالي 7 ملايين نسمة، لا يوجد فيها إلا عدة صحف تحصي علي أصابع اليد هي جريدة مونتريال ولابريس ولوديفوار بالفرنسية، وجازيت أون مونتريال بالفرنسية، فضلا عن جريدتين مجانتين توزعان في محطات المترو هما "24" و"مترو".&

الناس هنا شغلها الأول، الاقتصاد والعمل، وتأتي السياسة في مرحلة تالية، وفي مناسبات معينة، عندما يستدعي الأمر التحرك. أما الحالة المصرية والعربية، فالكل مشغول بالسياسة، والتي تحولت إلى هواية يومية، يمارسها الكثيرون عن تقليد غربي غير رشيد، ودو مستوى تعليمي ومحاسبية "من قبل الجماهير"، أدت إلى فساد جزء من هذه السياسة، وغياب الثقة بين الجماهير، والنخبة.

المواطن المصري، ويساعده في ذلك الإعلام، في حاجة لإعادة ترتيب أولويات ليهتم بالعمل والتنمية، ويبحث عن نخبة جديدة، في مختلف المراحل السياسية، تعبر عن ثقته، وقادرة علي محاسبة صانع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وطالما تحلي المصريون والعرب بالعاطفة، والتأثير بالأيديولوجيات البالية، لأن مرحلة ما بعد المعرفة، أصبحت مرحلة البحث عن المصلحة، وليس الدفاع عن أفكار تحقق مصالح نخبوية، ويدفع ثمنها القاعدة من الجماهير –غير الواعية- بسبب المستوى التعليمي المنخفض والأمية، وتوظيف خطاب ديني مغرض يبطل القدرة علي التفكير والتحليل وتحليل مصلحة المجتمع، المنبثقة من مصالح مجموع المواطنين.

أعتقد أنه من الأجدى أن يتوقف الإعلام عن الحديث عن الديمقراطية الغربية، لأنها لا تناسب الكثير من المجتمعات العربية والمصرية، لأن الديمقراطية في اساسها، المواطن القادر علي محاسبة صانع القرار، عبر ممثليه الذين يثق فيهم في المنظمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني المختلفة الناشطة في المجال العام، أو خلال لحظات ومناسبات الانتخابات المحلية والبرلمانية، وحتى الإنتخابات الداخلية لمنظمات المجتمع المدني.

مصر والدول العربية، تنادي النخب غير الحكومية دائما بضرورة دوران النخبة وانتخاب جيل وكوادر جديدة، وهؤلاء المنادون بدوران النخبة، هم أول من يكرسون للسلطوية في المنظمات، التي يديرونها، ويتبعون مختلف الوسائل للاستمرار في مقاعدهم الحزبية والنقابية لأطول فترة ممكنة، قد تمتد لعقود وأجيال.. ورغم ذلك يطالبون النخبة السياسية الرسمية، بتدوير المقاعد.

ضاع قدر كبير من الأمل، عندما تغيرت سلوكيات عدد من شباب ثورتي يناير ويونيه في مصر، الذين راهن عليهم البعض، للمشاركة في قيادة المجتمع نحو التغيير الإيجابي، وبهتت عليهم سلوكيات النخبة العجوزة، التي استطاعت أن تغري عدد ليس بالقليل منهم، وتضمه تحت لواء منظمات وأحزاب بالية، لم تعد لها أى شعبية في الشارع المصري، والانقسامات تأكل جنباتها.

الأمل الوحيد في تأهيل المواطن المصري والعربي للمشاركة بفاعلية في الإنتخابات، ومنظمات المجتمع المدني بفاعلية، مع تغيير سلوكيات النخبة الوسيطة، لتكون أداة الجماهير في رقابة والضغط علي صانع القرار، لتحقيق مصلحة المواطن، التي منها تتبللور مصلحة الوطن.. بدون هذا لا تحدثونا عن الديمقراطية والتنمية.. ولا تندموا علي أن قطاع المدنية ومجتمع المعرفة قد ترك مجتمعاتنا ليست فقط مقسمة، بل ومتناحرة، بسبب تغليب مصالح ايديولوجية عمياء، علي حساب مصلحة الوطن، وهي الأعظم والأسمي، لأنها المحققة لمصالح غالبية المواطنين، إذا كانت الديمقراطية فيه صحيحة، غير فاسدة، وكانت التنمية فيها حقيقية، غير مزيفة.

&

مونتريال