تتابَع الأخبار عن مفاوضات غيرِ مباشرة بين حماس وإسرائيل؛ للتوصُّل إلى هدنة طويلة، قد تكون لـ 5 سنوات؛ قامت بصياغتها تركيا وقطر؛ يُرجى منها أن تُفضي إلى رفع الحصار عن قطاع غزة، وتحسين أحواله المعيشية التي بلغت حدّا خطيرا، بحسب آخر تقرير للبنك الدولي الذي قال إن الحروب المتكرِّرة، والانقسامات، والحصار المفروض على القطاع يضعه "على حافّة الانهيار" وإن سكَّانه البالغ عددهم 1.8 مليون نسمة يعانون من الفقر والعَوَز". كما يُرجى من هذه الهدنة السماحُ بإعمار ما دمّرته الحروب الثلاث في أعوام& 2008، 2012، 2014م.

&وإزاء ذلك يزداد تحذيرُ السلطة الفلسطينية، وحركة فتح، وغيرها من فصائل منظمة التحرير من هكذا مفاوضات، تعني بحسب المحذِّرين، استدامةَ الانقسام بين الضفة الغربية والقطاع، كما أنها تعني تجاوزا عمليّا خطيرا لمنظمة التحرير " المُمثِّل الشرعي، والوحيد للشعب الفلسطيني" والمُخَوَّلة، وحدَها، بالتحدُّث باسمه، أو بأيِّ شأن سياسيٍّ عام، ولو لجزء من الفلسطينيين، في مناطق السلطة، أو في الشَّتات.

وقبل التفصيل في هذه الجزئيّة لا بدّ من التذكير بأن النَّديْنِ اللدودين: فتح وحماس يعانيان أزمةً في مشروع كلٍّ منهما، مشروع فتح الذي لم يتغيَّر رسميا حتى الآن، وهو السلطة الفلسطينية والتفاوض، والنضال السلمي؛ من أجل الوصول إلى دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتُلت عام 1967 وعاصمتها القدس الشريف، وحق العودة، إلى حركة حماس التي تنتهج المقاومةَ المسلَّحة برؤية إسلامية؛ من أجل تحرير ما يمكن تحريرُه من فلسطين، دون الاعتراف بحقِّ إسرائيل في الوجود .

ثار جدل منذ فترة حول مبدأ التفاوض، عند حماس، مع إسرائيل، وكان المعهود على حماس رفضُه والتنديد به؛ أو هكذا فهم الناس؛ من مواقف حماس من مفاوضات منظمة التحرير مع دولة الاحتلال، ولأنه قد يعني اعترافا ضمنيّا بإسرائيل، ولأن ميثاق حماس يقول بأنه:"لا حلَّ للقضية الفلسطينية إلا بالجهاد، أمّا المبادرات والطروحات، والمؤتمرات الدولية، فمَضْيَعةٌ للوقت، وعبثٌ من العبث." وفي موضع آخر يرى الميثاق في " الحلول السلمية" أمرا يتعارض مع " عقيدة حركة المقاومة الإسلامية". ولكنّ التطوّرات تمخّضت عن قبولٍ بالتفاوض مع إسرائيل، عن طريق وسطاء، حول قضايا لا تتصل بصُلب الصراع، أو بحلول سياسية، إنما بقضايا مُحدَّدة، هي أقرب إلى اتفاقات بين أعداء متحاربين، وأهمُّ ذلك مبادلةُ الأسرى بجنود إسرائيليين لدى الحركة، أو اتفاقات الهُدَن التي أوقفت القتالَ لفترات، ولمَرّات.
وهنا تعود السلطة الفلسطينية، وفتح، لأخذ دور حماس السابق التي كانت "تزاود" على نهج التفاوض، ويخوِّنُ محسوبون عليها المفاوِضين، أو المُوقِّعين على اتفاقات سلميَّة، وأهمُّها أوسلو.
لكن حماس تستطيع أن تقول إن تفاوضها لن يُفضيَ إلى توقيع اتفاقات دائمة، أو حلول نهائيّة مع إسرائيل، وأنها هي المُؤهَّلة؛ بحكم الواقع، لهذا الحديث؛ لأنها التي تُصارع إسرائيل، وتخوض حروبا معها، كلَّ فترة، وهي التي تحكم غزة، فعليا، فضلا عن انتفاء& ثقة حماس، بما يكفي، لتخويل السلطة بالتفاوض على مصير قطاع غزة، حاضنة حماس، وعلى أمور تحدِّد مصير القطاع، ومستقبل حماس.

ولعل السؤالَّ الأهم أن يكون: هل يمكن أن تتطوَّر هذه المفاوضاتُ؛ لتطال القضايا السياسية؟ وهل يمكن أن تصبح مباشِرة؟ وما الفوائد والمحاذير؟
ولعل السؤال الموازي، هو: هل يمكن البناء، سياسيا، على نقاط الاتفاق، أو التقاطع الغريب، نظريا، بين "حكومة نتنياهو الأكثر يمينيَّة" و"حماس" الإسلامية؟
من المبكِّر توقُّع تطوّر المفاوضات إلى التطرُّق إلى قضايا سياسية، ولو دون اعتراف متبادَل، ولو كانت حلولا مؤقَّتة، فمجرَّد تطوُّرها إلى حلٍّ سياسي يَلقى معارضة ليست هيَّنة من اليمين الإسرائيلي، في حكومة نتنياهو العتيدة، كما أنه لا يحظى بدعم أمريكي، ولا يبدو له دعم عربي، أو إقليمي.
لكن الهدنة الطويلة الأمد، (وهي ليست بِدْعا في فكر حماس السياسي؛ إذ سبق أن طرحها زعيمُها الروحي، أحمد ياسين الذي اغتالته إسرائيل في 2004م). قد تُمهِّد، إذا توفَّرت إرادةٌ دولية وإقليمية وعربية مسانِدة، لتفاهمات سياسية، لا تتعارض، جوهريا، مع المبدأ الأهمّ في ثوابت حماس، وهو الاعترافُ الصريح بشرعية إسرائيل، ويخفِّف من الثقل السياسي الضاغط على إسرائيل المتجهة نحو اليمين الأكثر تطرُّفا، وتشدُّدا، وغير المؤمن بتوفُّر الظروف الناضجة لحلٍّ سياسي نهائيٍّ مع منظمة التحرير، والسلطة الفلسطينية.
مع أن هذا الاحتمال (التفاهمات السياسية) ليس سهلا؛ ولا سيما إذا استمرّ الاحتلال، وهو المُتوقَّع، في الاستيطان، وتهويد القدس؛ ومصادرة الأراضي، والاعتقال، وغيرها من الممارسات الاحتلالية ما قد يعني، عمليا، سكوتَ حماس عن هذا الممارسات، حتى إن بعض الآراء تتحدث عن أن حماس لن تعقد، حتى هدنة إنسانية طويلة، إلا إذا شملت الضفة الغربية.

&ولا يُستبعَد أن يكون كلُّ هذا الحديث نوعا من الضغط على الأطراف التي تضيق الخِناق على حماس في القطاع، حيث تستمر مصر في إغلاق معبر رفح، إلا لفترات غير كافية، وتستمر السلطة في رام الله، او حكومة الوفاق في إعاقة إنهاء الملفّات العالقة، وفي مقدِّمتها الإعمار، وملفّ موظفي حكومة حماس السابقة. وفي هذا السياق جاءت التصريحات الصحفية، من مصادر داخل حركة حماس، بأن "ثمّة طَرَفا في الحركة يؤيِّد هذه المقترحات بالهدنة، وبقوّة، في ظلِّ الواقع الصعب الذي تشهده الحركة، وقطاع غزة، بشكل عام، وإهمال السلطة، وحكومة الوفاق لدورها في إنهاء الملفات العالقة".

ولا يخفى أن موقف السلطة المُضَيِّق على حماس لا ينبُع منها، وحدَها، بقدر ما هو تجسيد لإرادة أمريكية، وبعض إرادةٍ عربية رسمية.

وهذا التلويح الحمساويُّ يأتي ردّا على محاولات السلطة استغلالَ حَراجة الوضع الذي تعيشه حماس، والقطاع مِن قَبْلِها، حيث تلقَّتْ ضربة، أو صدمةً قوية، بعد الإطاحة بحليفها الأوثق، محمد مرسي الذي تصرِّح حماس، في ميثاقها، بكونها جناحا من أجنحة حركته " الإخوان المسلمين". وحيث ساءت، أو تضعضعت علاقتُها بإيران؛ على إثْر موقف قيادة حماس السياسية، ورئيس مكتبها السياسي، خالد مشعل، من "الثورة السورية" وتراجُع الدعم الماليِّ الإيرانيِّ نتيجة ذلك، واستمرت في أحلك الظروف، بعد العدوان الأخير على القطاع، والدمار الذي لم يقتصر على المباني، والبنية التحتية، بل طاول البنيةَ الاقتصادية ( نسبةُ عدد العاطلين عن العمل في غزة هي الأعلى في العالم، بحسب تقرير البنك الدولي الأخير) والاجتماعية، والنفسية، للغَزِّيين الذين اضطر كثير منهم إلى ركوب البحر، في هجرات الموتُ فيها أقربُ من النجاة.

وفي الخلاصة يبقى أيُّ اتفاق بين حماس (المقاوِمة) وإسرائيل (الاستيطانية التوسُّعية التهويدية) محدودا، ولعلَّ محدوديته هي التي تُغري به قياداتٌ يمينية، وعلى رأسهم نتنياهو الذي قد يسوّق نتائج الاتفاق، أيْ الهدوء من تلقاء غزة، على أنه إنجاز لحربه الأخيرة، ويبقى إقرار مثل هذه التوجُّهات نحو تجميد المقاومة، ولو إلى حين، مع ضبط، أو منع أيِّ فصيل مقاوِم من خرقها، أمرا متوقِّفا على تبلور رأيٍ داخل جناحيْ حماس: السياسي الذي تغلُب عليه المرونةُ والبراغماتية، منهجيا، ويميل إلى محور تركيا وقطر، سياسيا، وبين الجناح العسكري الذي لا يزال على صلةٍ مع طهران، جعلت الناطقَ باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، في الذكرى السابعة والعشرين لانطلاقة حماس،& يشكرُها علنا.
[email protected]
&