في غضون 12 سنة، تحولت تركيا من غائب كبير عن الشرق الأوسط الى لاعب أساسي. وكإحدى صور اللاعب العائد بقوة، حاول رئيس وزرائها السابق رجب طيب أردوغان في أكثر من محطة، تقديم نفسه نموذجا للمنطقة، قبالة نماذج أخرى... مرة باعتباره خصما لاسرائيل، وأخرى بصفته اسلامياً معتدلاً في نظام متجذر العلمانية، وثالثة باعتباره خصماً سنياً تقليدياً للمنافس الشيعي؛ ولاية الفقيه.
الا أن الانتخابات التركية لم تقدم اردوغان النموذج، بل النظام النموذج. انتخابات قادرة على صناعة صيغة للتغيير، في مواجهة طموحات الرجل بتحويل بلاده من نظام نيابي الى رئاسي. وفي هذا تكمن المخاطر، رغم ما يقدمه من اغراءات تكرس الاستقرار اكثر، ولكنها ايضا تكرس المخاوف من الانقلاب على الديمقراطية، خصوصا وان تركيا العلمانية ليست مستقرة ديمقراطياً، في ظل تاريخ من تدخل الجيش وقمع للحريات الصحفية والسياسية والحرب ضد الاقليات.
ما يسجل لحزب اردوغان هو قدرته على تغيير اتجاه المكانة التركية من وهم الدخول ضمن اوربا العلمانية "المسيحية" الى الدور في الشرق الأوسط، وهذا سيظل أحد الثوابت في المرحلة المقبلة للسياسة التركية، سواء بقي حزب العدالة والتنمية على رأس الحكم أم لم يبق. لكن الخلل كان في شكل ومضمون هذا التغيير، وهو أمر متوقع مع رغبة استعادة المجد العثماني، والاعتماد على الايديولوجيا كقاعدة لعب اقليمي.&&
ان تركيا العلمانية الديمقراطية النيابية وغير الريعية هي النموذج، وليس الاسلامية، حتى لو كانت الاكثرية النيابية لهم. لأنها بالنهاية مثال لشكل نظام قادر على تحمل كل القوى المختلفة شريطة ان تحترم قواعده الاساسية، ولأن الاردوغانية بشكلها المجرد هي الصورة غير المناسبة لنظام علماني، كونها ممرا لداعش، وداعماً منحازاً للحركات الدينية داخل البلدان العربية خارج سياقات "احترام سيادة البلدان". وهذا الدور، الذي اعتمدته ايران الثورية، لا يليق بدولة ديمقراطية. لذلك ان المسار كان خاطئاً، حيث جعل من تركيا متماهية مع النموذج الثوري الايراني. أي انها لبست ثوباً ليس ثوبها، فهي ليست نظاماً ثورياً وتحالفاتها الدولية تجعلها عاجزة عن الذهاب بعيدا في مثل هذه المهمة.
لكن، بالنسبة لنا، كشعوب مدفوعة بصراعاتها البدائية، وطائفتيها تحدد اتجاهات الرأي العام والقناعات الجماعية، فإن تراجع نسبة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات، كانت المعيار في الحزن والفرح داخل الأوساط العربية، خصوصا في العراق وسوريا ولبنان. فقلما نظر أحد من المعنيين الى قيمة الانتخابات الحرة، وصعود أحزاب جديدة، وطبيعة استجابة الشعوب، سلمياً، ضد أو مع السياسات. صحيح ان من الطبيعي ان تلعب المصالح دورها، فتدفع شيعة العراق الى الفرح بتراجع زخم الزعيم المتهم بملف داعش، وسنة العراق الاسلاميين الى الحزن كونه الراعي الجديد، وتصيب معارضي نظام بشار الاسد بقلق من النتائج، فاردوغان قدم مجاله الجغرافي داعما لهم، فضلا عن ايوائه المهاجرين السوريين، وان الموالين يرون فيه الشيطان... لكن بالنهاية، علينا أن نتذكر، ان هذا يندرج داخل دائرة الطموحات، وهي ان قدمت الخدمة راهناً، فليس بالضرورة أن تكون كذلك غداً، حالها حال بقية الانظمة الاقليمية القوية ذات الشأن في العراق وسوريا.
ان صعود الاردوغانية وتراجعها دليل على حيوية الاتراك، أما الاخرون غير الديمقراطيين المصابون بالهلع أو الفرح، سيبقون عاجزين سوى عن الفرح والهلع.
&
التعليقات