عند زيارتي الاولى الى مدينة إستنبول الجميلة نزلت في فندق بميدان "تقسيم" الشهير وفي تمام الساعة التاسعة من صباح يوم الخميس ١٠ نوفمبر عام ٢٠١١ نظرت من نافذة غرفتي بالفندق وفوجئت بان الحركة في الميدان قد توقفت توقفت السيارات وتوقف المشاه وراكبي الدراجات وترجل سائقي سيارات التاكسي من سيارتهم ووقف الجميع دقيقة صمت، وتعجبت مما رأيت وتوقعت ان هناك شخصا هاما قد مات او ان حدثا خطيرا قد حدث فبادرت بتشغيل جهاز التليفزيون بالغرفة، ورغم ان معرفتي باللغة التركية لا يضاهيها الا معرفتي باللغة اليابانية الا انني عرفت سبب تجمد الحركة في الميدان، وهو ان هذا اليوم هو الذكرى الثالثة والسبعون لوفاة مصطفى كمال اتاتورك مؤسس دولة تركيا العلمانية الحديثة والتي نشأت على أنقاض الدولة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الاولى. وتعجبت اكثر عندما شاهدت رئيس الوزراء التركي رجب طيب اوردجان مع زعماء حزبه الاسلامي (حزب العدالة والتنمية) يتصدرون الاحتفال بذكرى وفاة مؤسس العلمانية التركية.
...
وعندما جاء الرئيس التركي اوردجان لزيارة مصر في أعقاب فوز الاخوان المسلمين بالسلطة، استقبل في مطار القاهرة استقبال الأبطال الفاتحين على أساس ان اوردجان يمثل النموذج الناجح للإسلام السياسي وأمريكا والغرب تؤيد تكرار التجربة التركية في دول اخرى في المنطقة لاحتواء الاسلام السياسي وابعاده عن التطرّف والإرهاب، ولكن اوردجان فاجأ الاخوان عندما صرح بانه رئيس مسلم لدولة علمانية وغضب قادة الاخوان وصرحوا بأنهم في غنى عمن يعلمهم أصول الحكم والديموقراطية وأنهم لا يؤمنون بالعلمانية، وسافر اوردجان وحيدا بدون الاحتفالات والمظاهرات التي قوبل بها عند وصوله للقاهرة.
وبالرغم من ان اوردجان لا يزال يدافع عن الاخوان المسلمين ويحتضن بعضهم الا انه يعرف في قرارة نفسه بان الاخوان بغبائهم قد اضاعوا الفرصة التي انتظروها لأكثر من ثمانين عاما لحكم مصر، ولو قاموا بالفعل بتبني نصيحة اوردجان باتخاذ العلمانية سبيلا للحكم، لربما ظلوا في السلطة حتى اليوم.
وانا انصح قيادات الاخوان سواء كانوا في السجون داخل مصر او هاربون من السلطة خارج مصر بان يقرأوا كتاب السيرة الذاتية للرئيس رجب طيب اوردجان لمعرفة كيف استطاع التوفيق بين علمانية تركيا والتي بدأها مصطفى كمال اتاتورك وبين الاسلام السياسي والذي يعتنقه اوردجان وحزبه (حزب العدالة والتنمية).
في الخطاب الذي ارسله اوردجان الى رئيس جمهورية تركيا لقبوله منصب رئيس الوزراء لأول مرة بعد فوز حزبه (العدالة والتنمية) بالانتخابات لأول مرة في تاريخ تركيا الحديث، لم يذكر تطبيق الشريعة الاسلامية ولم يتكلم عن الاسلام ولكنه ذكر مرتين في هذا الخطاب القصير مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال اتاتورك، مؤكدا على علمانية الدولة، وبمحافظة اوردجان على علمانية تركيا ضرب عدة عصافير بحجر واحد:
اولا: احترم مشاعر الشعب التركي والذي يقدس في معظمه مصطفى كمال اتاتورك ويعتبرونه ابو تركيا الحديثة.
ثانيا: لم يصطدم مع الجيش القوة الرئيسية في تركيا والتي تحمى علمانية اتاتورك، ولكنه بالتدريج وعبر ١١ سنة من العمل السياسي الدؤوب استطاع تحييد وإخراج الجنرالات من الحكم، بل واستطاع محاكمة بعض الفاسدين منهم.
ثالثا: بفصله الدين عن السياسة، استطاع ان يطمئن الاستثمارات الأجنبية والمحلية واستطاع ان ينهض بتركيا نهضة رائعة في خلال سنوات بسيطة في عمر الشعوب وتضاعف دخل المواطن التركي لأكثر من ثلاث مرات خلال ١٢ سنة فقط.
...
والعلمانية هي ترجمة غير صحيحة لمرادف الكلمة الانجليزية "Secularism" وهي مشتقة من الكلمة اللاتينية& "Secularis" وتعني انساني او دنيوي، وأول من استخدم تعبير Secularism هو الكاتب الانجليزي جورج جاكوب هولي أوك في عام ١٨٥١ ميلادية، وقال انه ليس ضد المسيحية ولكنه مع حرية التفكير وحرية العقيدة، وأخيرا استقر تعريف كلمة Secularism على انها الفصل بين الدين والسياسة وايضاً التاكيد على حرية العقيدة ضد اي تسلط ديني.
وفي الحقيقة انا لا اجد كلمة عربية نحصل بها على ترجمة دقيقة للكلمة، واعتقد ان الرجوع لأصل الكلمة اللاتيني بمعنى "انساني" او دنيوي قد تبدو أفضل، والعلمانية ليست شيئا مقدسا مثل الاديان لانها معتقد انساني يقبل الخطا والصواب، وايا كانت الترجمة فان المهم هو معناها، والعلمانية هي ببساطة محاولة عدم اقحام الدين في السياسة، فعلى سبيل المثال فإنك لا تستطيع ان تقول ان مصر او تركيا دولة إسلامية، لان الدولة لا دين لها والدولة لا تدخل الجنة والنار، ولكنك تستطيع القول بان أغلبية سكان مصر يدينون بدين الاسلام، وبلد مثل مصر عبر العصور تغير دين سكانها لأكثر من مرة فكان سكانها يؤمنون تارة بديانة آمون رع وتارة اخرى بديانة أتون ايام اخناتون وتارة بالديانة المسيحية ثم بالديانة الاسلامية وحتى مذهب المصريين الاسلامي تغير من المذهب السني ايام الدولة الأموية والعباسية الى المذهب الشيعي ايام الدولة الفاطمية ثم مرة اخرى للمذهب السني ايام الدولة الأيوبية، وما ينطبق على مصر ينطبق على العديد من الدول.
ومحاولة اقحام الدين في السياسة هي محاولة لا بد لها ان تفشل لانه اقحام الدين المقدس والقائم على ثوابت عمرها يتراوح بين ١٤٠٠ سنة الى ٣٠٠٠ سنة على السياسة والتي قد تتغير يوميا لانها تقوم على المصالح وليس على المباديء، وحتى في عز ايام الخلافة الرشيدة الاسلامية وبعد اقل من سنوات معدودة من وفاة الرسول صاحب الرسالة وعندما أتى الموضوع للحكم والسياسة تحكمت المصالح والقبلية وتم تنحية المباديء جانبا ولنا في مقتل عثمان وتاريخ الفتنة الكبرى بين على ومعاوية أسوة حسنة او أسوة مدمرة.
...
ولست ادري لماذا أصبحت كلمة العلمانية في عالمنا العربي والإسلامي سبة وشتيمة وقد يتم تكفير المؤمنين بها، وحتى لا أكرر نفسي كثيرا، فقد كتبت منذ ثمان سنوات مقال بعنوان :"العلمانيون انت أمامهم" ويمكن الاطلاع عليه وعلى رد موقع "حراس العقيدة" الإسلامي على المقال في الرابط التالي:
http://www.hurras.org/vb/showthread.php?t=6481
وإذا بحثتم معي فسوف تجدون ان الارهابيون لا ينتشرون في الدول العلمانية او التي تفصل بين الدين والسياسة حتى لو كان قادتها من المتدينين المتطرفين، ولنا في تركيا "اوردجان" أسوة حسنة.
التعليقات