أثناء أحداث ثورة 25 يناير في مصر كتبت عدة مقالات نشرتها فيما بعد في كتاب بعنوان "ثوار وبلطجية وفلول وطعمية" والحمد لله لا تزال معظم نسخ ذلك الكتاب في منزلنا العامر بالقاهرة! وأحد المقالات التي كتبتها ونشرت في الكتاب وندمت عليها فيما بعد كان مقالا بعنوان "ثورة مصر أعظم ثورة في التاريخ" ولكي أخفف شعور الندم وتأنيب الضمير على ذلك المقال كتبت فيما بعد مقال بعنوان "الشعب يريد تغيير الشعب" ويمكن قراءته انقر هنا.

عندما قامت الثورات العربية أطلق عليها ظلما بواسطة الإعلام الغربي "ثورات الربيع العربي" رغم أنها حدثت في الشتاء!! وكان شعار تلك الثورات : "الشعب يريد تغيير النظام" و "الشعب يريد إسقاط النظام" وبالفعل نجحت تلك الثورات في تونس ومصر وليبيا واليمن في إسقاط الأنظمة، ولم تسقط الأنظمة فحسب ولكن سقطت أيضا القوانين بل وسقطت هيبة الدولة وتحولت الحرية إلى فوضى وتحولت الديموقراطية إلى طائفية ومذهبية، وعندما سقط النظام لم يستبدل بنظام آخر، وعكس النظام لغويا هو الفوضى، وسخر الناس من مقولة للرئيس المصري حسني مبارك :"انا أو الفوضى" وأشك تماما بأن مبارك قال هذا، وسواء كان قالها أم لم يقلها، فقد أتضح أن تلك المقولة أصبحت حقيقة، واصبحنا نرى أناس يحتلون الميادين ويقطعون الطرقات للمطالبة بتعيين أبناءهم في وظائف حكومية أو يقومون بضرب رؤساءهم أو يقومون بإحتلال مكاتب مجلس إدارة شركة أو يقومون بقطع خطوط السكك الحديدية من أجل تحقيق مكاسب فئوية أو يقومون بقتل مشجعي الفريق المنافس في كرة القدم أو يرفض رجال الإسعاف في الإستجابة لنداء الإسعاف أو يقوم بعض الناس بضرب الأطباء لأنهم فشلوا في إنقاذ مريض لهم ناهيك عن العصابات التي توقفك في الشارع للسلب والنهب أو إختطاف إبنك للمطالبة بفدية، والقائمة طويلة وظهر جليا للجميع أن أي نظام أيا كان فساده وفشله وظلمه هو أفضل كثيرا من "اللانظام" وأفضل كثيرا من الفوضى، وليست تلك "الفوضى الخلاقة" التي دعت لها كونداليسا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس بوش الإبن ولكنها الفوضى المدمرة، وفي ظل تلك الفوضى المدمرة ظهرهناك خياران: اللجوء لحماية أقوى القوى السياسية والعسكرية مثل المفاضلة بين حكم العسكر وحكم الأخوان كما هي الحالة في مصر، أواللجوء إلى أحضان الطائفية والمذهبية كما هي في حالة سوريا والعراق واليمن وليبيا.
وبعد أن كان هتاف "يسقط... يسقط حكم العسكر" هو هتاف يومي في ميدان التحرير في مصر ظهرت نداءات تقول :"نحن نبوس أقدام العسكر لكي يحكمونا مرة أخرى" وظهر السيسي مرة أخرى ليقوم بدور البطل المنقذ الذي أنقذ مصر من حكم المدنيين الفاشلين سواء كانوا ثوار 25 يناير الذي فشلوا في تكوين إئتلاف واحد يمثلهم أو في فشل البرادعي وجمعية التغييرثم نفذ بجلده بعد مأساة رابعة أو في حكم الأخوان الذين فشلوا في التعامل مع كل فئات المجتمع وفي النهاية ثبت أن العسكر هم أكثر إنضباطا وأكثر جدية في الحفاظ على وحدة الوطن وأنهم أفضل "الوحشين" . وحتى يعرف المدنيون كيف يحكمون أنفسهم أقول كل ثورة وأنتم طيبون.
....
&وفي أول أنتخابات برلمانية حرة بعد ثورة 25 يناير في مصر فاز الإسلام السياسي في مصر بإكتساح وحصد أكثر من 70% من المقاعد، وفي الإنتخابات الرئاسية كان أمام الناس خيارين: الإخوان ممثلا في الدكتور محمد مرسي، والعسكر والنظام السابق ممثلا في أحمد شفيق، وفاز الدكتور محمد مرسي بالرئاسة بأغلبية ضيئلة مثلما يحدث في أنتخابات أمريكا وأصبح أول رئيس جمهورية مدني منتخب، ولكن خصمه كان يعرف بلده كثيرا لذلك بعد أن هنأ الدكتور محمد مرسي على فوزه حزم أحمد شفيق أمتعته وهرب مع أسرته إلى الأمارات ومازال مقيما هناك، وكان على حق فقد بدأ تلفيق التهم إليه واحدة تلو الأخرى، ولا يزال على قائمة المطلوب القبض عليهم فور وصوله للقاهرة، وتخيلوا معي هذا المشهد العبثي، المرشحان اللذان حصلا على أعلى الأصوات في أول إنتخابات رئاسية حرة في الجمهورية المصرية أحدهما يقبع في السجن وعليه حكما بالإعدام لأنه هرب من المعتقل والآخر سوف يتم القبض عليه فور وصوله للقاهرة هذا إذا فكر في العودة.
فماذا حققت الثورات العربية إذن بخلاف الفوضى المدمرة؟ أعتقد أنها كشفت الشعوب العربية على حقيقتها للعالم وعرف العالم أن تلك الشعوب هي عبارة عن مجموعة متنافرة كانت قبائل متناحرة في عهد ما قبل الإستعمار وأصبحت دولا في عهد الإستعمار ثم عادت قبائل متناحرة مرة أخرى بعد عهد الإستعمار، وعرفنا أيضا أن الديموقراطية لا تحدث فقط بصندوق الإنتخابات البلاستيك الشفاف وعرفنا أيضا أنه من السهل على الشعوب الغير متحضرة أن تحسب أن الحرية هي الفوضى، وأنها تريد الإستمتاع بحريتها دون تحمل مسئولية تلك الحرية، وعرفنا أيضا أن مفهموم الدولة لدى الشعوب الغير متحضرة مفهوم مصطنع وأن الكثير من أفراد تلك الشعوب يفضلون أن يكون إنتماؤهم إلى الدين أو المذهب أو الطائفة أو العرق أو القبيلة أو العشيرة عن أن يكون إنتماؤهم للوطن والدولة، لذلك كان مستغربا في دولة مثل مصر وهي أقدم كيان دولة في التاريخ، أن يبدأ رئيسها الدكتور محمد مرسي بأن يخاطب المصريين بقوله : "اهلي وعشيرتي" ، وقد عرفنا أيضا أن الثورات العربية أنتجت جيلا جديدا من الإرهابيين أكثر عنفا وأكثر قتلا، ولقد عرفنا وعرف العالم ذلك ولكن هل ياترى عرفت الشعوب العربية أنفسها ؟ وهل نظرت جليا للمرآه؟ أنا أعتقد أننا ما زلنا نعيش في وهم المؤامرة، فمؤيدي الثورات العربية يقولون أن المؤامرات الأمريكية والصهوينية أجهضت الثورات العربية في مهدها ومعارضو الثورات العربية يقولون أن تلك الثورات كانت مؤامرة أمريكية غربية، وصدق باراك أوباما عندما قال مؤخرا في مقابلة له مع قناة العربية الفضائية: "الأمريكان دائما منتقدين في الشرق الأوسط، إذا تدخلنا في شئونكم للمساعدة قيل لنا لماذا تتدخلون؟ وإذا لم نتدخل للقضاء على داعش وتركنا لكم الأمر قيل لنا لماذا لا تتدخلون؟".
...
ولكم ما علاقة كل هذا بالحديث عن الإرهاب؟
لقد كنت مغرقا في التفاؤل عندما شاهدت نهوض الشعب المصري للقضاء على نظام حكم مبارك بطريقة سلمية وبعدد محدود من الضحايا مقارنة بثورات أخرى، وكنت أعتقد أنه بإقامة نظام ديموقراطي حديث مثل دول العالم المتقدم سوف يقودنا للحاق بتلك الدول، وسوف يقضي تلقائيا على الإرهاب، ولكن الأيام أثبتت لي بأن الوصول على بداية طريق التقدم هو طريق طويل جدا ولا بد وأن يمر بمراحل قاسية ولا بد أن تحاول الشعوب بتحقيق الثورات الحقيقية وهي الثورة على النفس والثورة على الموروث المتخلف والثورة على الفوضى والثورة على الفرقة ويجب على تلك الشعوب أن تعرف بأنها إذا أرادت أن تعيش عيشة محترمة وتنشأ أوطانا محترمة فيجب عليها إحترام المواطنة وإحترام كيان الدولة وإحترام الجيش الموحد للدولة، وعليها أن تعرف أن الوطن هو البوتقة الجميلة التي يجب أن يعيش ويتعايش داخلها المسلم والمسيحي، السني والشيعي، الكردي والعربي، الأبيض والأسود، الرجل والمرأة، الصحيح والمقعد، الفقير والغني، القوي والضعيف، والكل متساو في الحقوق والواجبات، وإذا لم نعرف كيف نتعايش فقل على الوطن السلام بل وقل "أهلا بالإرهاب"
[email protected]

&