&
اليوم، يقف اللبنانيون في الغبار وقفة احتجاج على ما يرونه من تجاهل تام من قبل السلطة، بينما يجلس أقطاب هذه السلطة في قاعة نظيفة مبردة، حصينة من رائحة النفايات، وبعيدة من أصوات المحتجين، لكي يعيدوا تنظيم خطوطهم، بعدما وجدوا أن الحراك المدني يسرق منهم طوائفهم، التي تجتمع بمنأى عنهم في ساحتي رياض الصلح والشهداء لترميهم جميعصا بتهم الفساد، في جرأة لم يعهدها المجتمع اللبناني المطيّف من جهة والمعسكر من جهة أخرى.
يعرف اللبنانيون أن لا حوار في هذه القاعة، وإنما إعادة إحياء تفاهمات تُبقي على المصالح المتقاطعة، بعدما هددتها فضيحة النفايات والمناقصات الملغومة. ويعرف اللبنانيون أن أقطاب الساحة السياسية يتراشقون صباحًا بالتخوين والعمالة وفائض القوة، حتى إذا أتى المساء جلسوا يتحاسبون، ليأخذ كل منهم حصته من الكعكة اللبنانية، حتى لو كانت كعكة نفايات...
لكن، الحفاظ على هذه المصالح يستدعي عملًا سياسيًا ما، سريعًا من دون تسرع، يمتص صدمة الحراك الشعبي. خلف الكواليس، يرسم النائب وليد جنبلاط ورئيس مجلس النواب نبيه بري، الداهيان اللذان يحركان لبنان بحسب المعتقد الشعبي السائد في البلاد، خارطة طريق هادئة للخروج من عنق زجاجة ضيقة، ضيقها اكثر إقفال مطمر الناعمة، الذي كشف الفضائح المستترة.
في الكواليس، يضع جنبلاط وبري لمسات أخيرة على سيناريو الحوار، هو الأفضل برايهما، يبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية من خارج الأربعة الموارنة (سمير جعجع وأمين الجميل وميشال عون وسليمان فرنجية)، والأوفر حظًا هو جان عبيد حتى الآن، وبالتالي يقفز البلد فوق مطلب سياسي مدني يتمثل في انتخاب رئيس.
بعدها، يستقيل رئيس الحكومة تمام سلام، لتتم مشاورات نيابية واسعة، تسمي كلها رئيس الحكومة السابق سعد الحريري رئيسًا جديدًا لمجلس الوزراء، بتزكية حتى من كتلة حزب الله، فيؤلف حكومة جامعة يسهل الحزب تأليفها، تتولى ولو صوريًا معالجة ملفات فساد صارت مفضوحة، وينبغي علاجها سريعًا، كيما تؤدي إلى انفضاح مزيد مستور.
أما مجلس النواب، الممدد لنفسه، فيعقد الجلسات تلو الجلسات، رافعًا شعار "قانون انتخابي جديد"، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا.
ثمة من يسأن إن كان حزب الله سيقبل بغير ميشال عون رئيسًا، ولكن... لو أرادوه رئيسًا فعلًا، أفلم يكن باستطاعتهم أن يأتوا به رئيسًا منتخبًا في جلسة واحدة؟ بلى، فأصوات كتلتهم وكتلة بري وكتلة التغيير والاصلاح قادرة على جمع ما يكفي من الأصوات لترئيس عون، بمعزل عن أصوات جنبلاط وكتلة المستقبل.
وثمة من يسأل أيضًا إن كان حزب الله موافقًا على عودة الحريري. للحزب اليوم مصلحة داخلية في تهدئة الخواطر تجاهه، خصوصًا بين السنة بعد ضربة اعتقال الشيخ أحمد الأسير، وله مصلحة في إعادة الحريري زعيمًا أوحد للسنة في لبنان، إذ هذا يريحه قليلًا من الاصرار السني على تسليم سلاحه للدولة، وعلى انسحابه من سوريا، بحسب معادلات مصلحية يستعيد مقابلها الحريري ما خسره من شعبية بفعل ابتعاده الطويل عن قاعدته الشعبية، وظهور منافسين متطرفين له في الساحة السنية اللبنانية. وثمة من يقول إن "تسليم" الأسير للدولة اللبنانية في هذا الظرف بالذات مؤداه تعبيد الطريق لعودة الحريري زعيمًا بلا منازع، بموافقة حزب الله، بل حتى بمباركته، حتى لو استمر الحريري في مهاجمة الحزب على خلفية التورط في الرمال السورية المتحركة، عملًا بالمبدأ الجنبلاطي القائل بفصل حزب الله في لبنان عن حزب الله في سوريا، والتعامل معه وفق المتغيرات اللبنانية، إلى حين...
وبذلك، ما يجري اليوم في البرلمان اللبناني هو محاولة حثيثة من مكونات السلطة اللبنانية لرص صفوفها مجددًا، وتوثيق نسيجها الاقتصادي، ولو أتى ذلك منافيًا لمصلحة الشعب اللبناني، المخنوق من النفايات والغبار، والمتعثرة حياته بما يثقل كاهله من مستحقات مالية يتكبدها من دون وجه حق.
&
التعليقات