&

في حكاية نهايات الخلافة العثماني يقال ان السلطان عبد الحميد الثاني قام بإجراءات لإصلاح الدولة حين أدرك أنها تتهاوى، بسبب سياساته والمتمثلة بتعطيل الدستور ثلاثين عاماً وإلغاء مجلس "المبعوثان"، وهو أول مجلس منتخب في تاريخ الخلافة. ومن ضمن الاجراءات إصدار التعديل الدستوري الثاني في 1908 ليعاد العمل بالانتخابات وتوزيع الصلاحيات.

فشلت الإصلاحات، لأنها جاءت متأخرة جدا، فلم يعد هناك دولة، بل مراكز قوى أكبر من المؤسسات التي أريد خلقها، وقادرة على ركوب أي توجه لاستعادة الدولة. المتطرفون والمرتبطون بأطراف خارجية اسقطوها وأسقطوا الخليفة بعد أن اتهموه بانتهاك الشريعية، فاستبدلوه بآخر ذي صلاحيات رمزية، وهي الصيغة التي استمرت في السنوات القليلة اللاحقة قبل هزيمة السلطنة في الحرب العالمية الاولى ثم قيام الاتاتوركية وإلغاء الخلافة. عبد الحميد الثاني قضى على نفسه وخلافة أجداده. فهو قبل ثلاثين سنة من اصلاحاته "المتأخرة" قام ايضا باجراءات مهمة، لكنه انقلب عليها. وربما لو أبقى عليها، وصدق في تنفيذها، وألحقها بأخرى في سنوات حكمه، لن تكون هذه النهاية، ولما انهارت الاستانة في حربها ضد الغرب.

بالتأكيد لا يمكن أن تقارن تلك التجربة بسواها من أي تجارب العالم. التاريخ لا يعيد نفسه بالتفاصيل، لكن هناك قواعد أساسية مشتركة بين التجارب السياسية في تاريخنا الحديث. فالاصلاحات العراقية، وهي الموضوع الملح في ظل التظاهرات الراهنة، تطرح أسئلة عديدة حول المستقل، تنبع من سؤالين مركزيين، هل هذه الاصلاحات جوهرية؟ وهل يمتلك رئيس الحكومة القدرة الكافية للسير في تنفيذها؟.

الى جانب العوامل الاقليمية والدولية، فإن جوهر المشكلة العراقية يكمن في أن البلاد ليس فقط لا تمتلك دولة، بل إن الدولة غير ممكنة في العراق. الأمر لا يقتصر على مأزق الهويات الثانوية التي تعلو الهوية الجامعة، إنما يشمل مراكز القوى التي تستفيد من هذه الهويات، او تعزز منها، وإن فقدتها تبحث عن بديلها للبقاء فوق الدولة "الافتراضية". خطوات العبادي في هذا الصدد، ذات اتجاهين، الأول اقتصادي صرف، يعالج بعضا من هدر المال العام استجابة للأزمة الاقتصادية الخانقة، وهذه ليست اصلاحات جذرية، بل رد فعل على وضع معين. الآخر الخطوات السياسية المتصلة بواقع المؤسسات الدستورية، مثل "الاختصار" في عدد الوزارات. والاهم في هذا الصدد إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية. وهي الخطوة الجوهرية الوحيدة فيما عرف بحزم الاصلاح. كونها عمدت الى مراكز قوى فصّلت مناصب على مقاساتها لتبقى في المشهد، أو لتبقى أقوى من المؤسسات الدستورية الإصيلة.

هذه الاهمية هي جزء من المهمة الرئيسية الأكبر الملقاة على عاتق من يبحث عن تغييرات جادة في العملية السياسية، وهي باختصار؛ تقويض أي قوة أكثر نفوذا من المؤسسات الدستورية. فمراكز القوى هي المشكلة، وهي عبارة عن زعامات، بعضها ليس له أي صفة دستورية، تتحكم بالعمل الحكومي والنيابي، وتوجهه وفق اتفاقاتها. وبذا، قوّضت أهم صفة للنظام العراقي، اي النظام النيابي.

بعد 10 سنوات من اقرار هذا النظام، لا يوجد مجلس نواب، إنما زعامات تمرر ما تريد عبر آلية التصويت الموجه والجمعي داخل البرلمان. فالعملية السياسية لا تعتمد الدستور، بل دستورا رديفا، غير مكتوب، يوظف الدستور الاصيل والمشرع، وبذلك تبدو العملية قانونية، وهي ليست كذلك، انما صيغة مشوهة لا تنتج دولة، هي تصنع دويلات، كل منها خاضع لاتجاه معين، لا تترابط مع بعضها الا بالأعراف الرديفة المسكوت عنها، عبر غطاء القوانين والتشريعات الرسمية.

لهذا فإن أي اصلاح لا يزيح موانع بناء الدولة، وعلى رأسها مراكز القوى، يبقى مجرد معالجة آنية تنهار بسرعة، كما حصل مع السلطان العثماني، الذي بنى مؤسسات دستورية على أسس جيدة، وانقلب عليها، وحين عاد الى بنائه القديم، وجد كل شيء تغير، ونفسه خارج قوس. السلطان هنا ليس شخص العبادي فحسب، انما مراكز القوى. وما تقوم به، سيؤدي بالضرورة الى مسارات ليست ضد مصلحة العراق حصريا، ستخسر هي مهما ربحت اليوم. فعدم وجود دولة، يعني بالضرورة وضعا شاذا ينتج عنه بالمستقبل القريب وليس البعيد، سقوطاً للعملية السياسية ومعها دويلاتها.

لا بقاء لهكذا عملية دون وجود نظام، ولا يمكن للنظام ان يستمر اذا لم تكن هناك دولة، ولا دولة ان بقيت مراكز القوى...&&
&