مقالتي اليوم هي تكمله لمقالتي السابقه ( جراح الأنفال لاتلتئم أبدا )، التي كتبت عنها باختصار وحاولت ان اضع النقاط على الحروف، واطرح من جديد مطالب اهالي الضحايا والشهداء والمؤنفلين على الرأي العام العربي قبل المحلي في الذكرى السنوية لجريمة العصر ( الانفال 14 / 4) ،معتمداً على الوثائق والمعلومات الموثوقة ( المحلية والدولية )وعلى معايشتي الميدانية مع الاحداث الكردستانية وكشاهد على جرائم النظام العراقي البائد قبل واثناء وبعد جريمة العصر ( الانفال )، اضافة الى مقابلاتي الصحفية مع من عاشوا في تلك الفترة المظلمة ونجوا باعجوبة من عواصف السموم الصفراء القاتلة ومن الزنزانات والاقبية والمسالخ والمجمعات البعثية القسرية ... !!
في البداية اود ان أشكر قرائي الأكارم على تجاوبهم وتعليقاتهم على مقال ( جراح الأنفال لاتلتأم أبدا ) ، لفت نظري واستوقفني مداخلة الكاتب والمحلل السياسي المصري الكبير ( رجائي فايد ) على مقالي ، هذا الشاهد والكاتب المنصف والصادق مع نفسه ومع الاخرين ،والذي عاش في الثمانينات من القرن الماضي مع زوجته السيدة ( سامية شاذلي ) وطفليه ( حمادة ومنى ) في مدينة ( هه ولير) (1 ) لمدة اكثر من (9 ) سنوات ، و شاركونا في افراحنا واحزاننا ، ورأو بام اعينهم كيف كان النظام العراقي البائد يتعامل بقسوة بالغة مع اهالي القرى الابرياء قبل واثناء وبعد جرائم الانفال الاكثر من سيئة الصيت ومع الجرحى المدنيين الذين رش عليهم ( رئيسهم ) السموم القاتلة في عامي ( 1987 ـ 1988 ) وبحجج واهية .
يعيد السيد( فايد ) مشكورا في مداخلته بعنوان ( انفال والذكريات الحزينة )، يعيد الى أذهان العالم الصامت الذي وقف متفرجا على جرائم ( صدام حسين) بحق الشعوب العراقية ، جزءا من هول المآسي والكوارث التي حلت بالشعب الكردي في الثمانينات من القرن الماضي على يد اعتى دكتاتور مجرم عرفته المنطقة برمتها وكـ(شاهد عيان ) ويقول فيها : (كنت وقتها في عامي الأخير في أربيل، اتخذت قراراّ بإنهاء عملي في العراق، فالأوضاع كانت بالغة السوء، دخلت الحرب العراقية الإيرانية مرحلة حرب المدن الصواريخ الإيرانية في مقابل الصواريخ العراقية، والتي تمكن صدام حسين من شرائها من كوريا الشمالية، وغير هويتها من شيوعية إلى إسلامية، فأطلق عليها إسم (الحسين) و(العباس)، حينئذ غاب العقل تماماّ وأصبحت المسألة جنون في مواجهة جنون، وفي ظل هذا الجنون يمم صدام سلوكه الجنوني شطر شعبه فكانت عمليات الأنفال البشعة والتي تخللها القصف الدامي لمدينة حلبجة، تصادف أن كنت مسافراّ من أربيل إلى بغداد واسترعى نظري بالقرب من قوش تبه، قافلة من الدبابات تتجه إلى إحدى القرى ومن خلفها الجرافات، كي تؤدي المهام القتالية الأشاوسية ضد هؤلاء القرويين البؤساء، تنفيذاّ لتوجيهات المهيب الركن والتي ينفذها بالحرف حاكم المنطقة علي حسن المجيد ، كانت التعليمات محددة (من الآن لاقرى في المنطقة الشمالية)، على جانبي الطريق كانت حقول الحنطة والشعير قد أحرقت وهي التي كانت على وشك الحصاد، وبدلا من لونها الذهبي تحولت إلى اللون الأسود الكئيب ليكون عنواناّ لسواد تلك الأيام، وفي أسواق أربيل رأيت الفلاحين يبيعون أغنامهم بأثمان بخسة، فلا طعام لتلك الأغنام ولا مأوى لهم ولا لأصحابها،كان إبن شقيقتي يعمل حينئذ مدرسا بكلية الطب جامعة صلاح الدين، وجاءني حزيناّ مبتئساّ يقص علىّ ماحدث في ذلك اليوم (وصلت إلى المستشفى الجمهوري اليوم سيارة نصف نقل عليها أجساد مكومة غائبة عن الوعي ووجهها شديد الإحمرار، مازالوا أحياء لكنهم في طريقهم إلى الموت، فقد تعرضوا للقصف بالغازات السامة، ولم يسمح لهم بدخول المستشفى فقد جاء الأمر بإعادتهم من حيث أتوا، وبالفعل أعيدوا دون إنقاذهم)، وبدأت الأخبار تتسرب حول هول ماحدث، سياسة الأرض المحروقة، فالأرض تحرق بما عليها من أي كائنات، والعجيب أنه تم الإعلان عن مسيرة إبتهاجية بما تم تحقيقه من نصر مؤزر على (الخونة) و(الزمرة العميلة)، وكان التجمع المعتاد أمام مقر فرع أربيل لحزب البعث العربي الإشتراكي، وفي الشرفة كان المناضلون يخطبون ويهتفون، دون أن تجد لهتافاتهم تلك أي صدى لدى الجموع المنكسرة قلوبها في الساحة،أذكر حينئذ أن طالباّ أعطى بالقوة صورة لصدام ليرفعها، ويقينا كان هذا الطالب له ضحايا في مذابح ومحارق الأنفال فألقى هذه الصورة إلى الأرض، وعلى الفور انطلقت رصاصات من بندقية أحد الأشاوس لتحصد حياته،كنت أعد الأيام بل والساعات وربما الدقائق والتي سأغادر العراق نهائياّ بعدها، وكان الأصدقاء الأحباء يسألونني متى تسافر وتفلت بجلدك وتتركنا في مصيبتنا ، وكنت أعلم أن سؤالهم ينطلق من حبهم لي والخوف على حياتي وحياة أسرتي،هي ذكريات حزينة ولاشك لن تمحوها الأيام من ذاكرتي حتى آخر العمر، كانت تلك الجرائم ترتكب والعالم صامت متشرنق في مصالحه، يبيع السلاح لكلا الطرفين المتحاربين ، ويبيع الغازات السامة لصدام ليقتل بها شعبه، أما الإعلام وخصوصا العربي فتلك حكاية أخرى......عيون مصرية رجائي فايد ( انتهى الاقتباس ) .
وهنا لابد ان اقف عند بعض الاحداث التي تطرق اليها الكاتب كشاهد عيان ، عاش معنا في افراحا واطراحنا، واصبح شاهدا على وحشية وإجرام حزب البعث الفاشي في حقبة صدام حسين ( الحقبة الأشد دموية وتدميراً في تاريخ الشعب العراقي بشكل عام والشعب الكردي بشكل خاص ) .
1 ـ الحادثة التي ذكرها الكاتب القدير ( رجائي فايد ) على لسان إبن شقيقته الذي كان يعمل حينئذ مدرسا بكلية الطب جامعة (صلاح الدين ـ اربيل ) ، كانت في يوم 16 نيسان عام 1987 عندما تعرض (وادي باليسان) الواقع في محافظة أربيل ولاول مرة الى هجمات بالأسلحة الكيمياوية من قبل الطائرات العراقية و التي أدت الى قتل (103 )شخص وإصابة حوالي( 346 ) من أهالي قرية (باليسان وشيخ وسانان )الواقعة قرب الطريق العام (جوارقرنة - خليفان ) والتي تم نقلهم بعد الضربة الكيمياوية مباشرة بعربات تجرّها التراكتورات من قبل اهالي القرى المجاورة الى مستشفى مدينة (رانية ) ومن هناك تم نقلهم الى طواريء مستشفى أربيل المركزي بعد الاسعافات الأولية التي قدمت للمصابين في مستشفى مدينة (رانية ) .
وبعد وصولهم الى مستشفى اربيل المركزي رفض الاطباء استقبالهم خوفأ من العقاب البعثي ، حيث جاءت في ذالك الزمان الأسود وحسب مصادر موثوقة كتبأ رسمية معممة من دوائر الأمن في بغداد والمحافظات على اطباء العيادة الخارجية والاطباء الخفر في المستشفيات ( تأمر )، بعدم تقديم أي علاج للجرحى والمصابين بالاسلحة الكيمياوية ، وعليه تم نُقِل المصابين الى سجن امن أربيل من قبل رجال الأمن والاستخبارات بعد أن علموا بخبر وصول الضحايا الى قسم الطوارئ في مستشفى اربيل ، وهنك تم عزل الرجال عن النساء ، وأخذوا الشباب والرجال بقصد استجوابهم الى جهة مجهولة ولم يًعرف مصيرهم لحد الأن ، اما النساء والاطفال فقد تم اطلاق سراحهم بعد ان بقوا في حجز امن اربيل لمدة 9 ايام ( حسب افادات شهود عيان كانوا يعملون في طواريء مستشفى الجمهوري المركزي انذاك وتحدثوا بالتفصيل عن الحادثة ) .
وبعد انتفاضة اذار المجيدة وتحديدا في18 / 9 / 1991 تم العثور على رفات( 25 ) مغدور فقط من اهالي (قرية باليسان ) في قبر جماعي في مقبرة ( معمل قير جنوب اربيل ) كانوا من ضمن المصابين بالسموم الكيمياوية السامة في 16 ىيسان 1987 . ( راجع افادات الشهود والضحايا الناجين من الضربة الكيمياوية في نيسان 1987 ومنها افادة الشاهدة أديبة بايز والشاكية بدرية سعيد حضر والشاهدة بهية مصطفى محمود ) .
2 ـ يقول الاستاذ ( فايد ) في مداخلته : ( وفي أسواق أربيل رأيت الفلاحين يبيعون أغنامهم بأثمان بخسة، فلا طعام لتلك الأغنام ولا مأوى لهم ولا لأصحابها ) ( انتهى الاقتباس ) .
نعم ..أن النظام العراقي البائد استطاع أن يحقق ( نصرأ ) كبيرا على المدنيين العزل وقرائهم الامنة وتحديدا في عام الانفال ، وعليه لم يكتفي النظام بالقصف الكيمياوي بل اتبع سياسة الارض المحروقة ، حيث تم حرق مساحات شاسعة من الاراضي الزراعية وجرت عمليات التهجير والترحيل القسري من القرى التي سميت بالمحضورة في قاموس النظام العراقي بعد ان حُرقت مزارعهم وبساتينهم المثمرة وبيوتهم الطينية ، حيث صدر (علي حسن المجيد ـ المعروف بـعلي الكيمياوي ) بعد ان عين حاكما مطلقا على كردستان ،صدر قرارا اثناء عملية الانفال الاكثر من سيئة الصيت وخاصة بعد ان نصب حامأ مطلقأ على كردستان من قبل ( صدام حسين ) و بالتحديد في 3 / 6 / 1987 قال فيه نصا وباخطائه اللغوية والنحوية : :-
1ـ يمنع منعا باتا وصول اية مادة غذائية او بشرية او الية الى القرى المحظورة ايضا المشمولة بالمرحلة الثانية من تجميع القرى و يسمح للعودة الى الصف الوطني لمن يرغب منهم لا يسمح الاتصال بهم من اقربائهم نهائيا الا بعلم الاجهزة الامنية ،
2 ـ يمنع التواجد منعا باتا في المناطق المرحّلة من القرى المحظورة امنيا و المشمولة بالمرحلة الاولى و لغاية 21 / 6 / 1978 للمنطقة المشمولة بالمرحلة الثانية ،
3 بعد اكمال الموسم الشتوي و الذي يجب ان ينتهي في 15 تموز بالنسبة الى الحصاد و لا يجوز استمرار الزراعة فيه للموسمين الشتوي و الصيفي لهذا الموسم ايضا .
4 ـ يحرم كذالك رعي المواشي ضمن هذه المناطق
5 ـ على القوة العسكرية ضمن كل مقاطعة قتل اي انسان او حيوان يتواجد ضمن هذه المناطق و تعتبر محرمة تحريما كاملا ،
6 ـ يبلغ المشمولون بترحيلهم الى المجمعات بهذا القرار و يتحملون مسؤولية مخالفاتهم له ، للاطلاع و العمل بموجبه كل ضمن اختصاصه )( راجع الكتب الرسمية البعثية التي صدرت في عامي 1987 ـ 1988 المقدمة الى المحكمة العراقية العليا المختصة بالانفال ) .
لقد اصبحت هذه النقاط قرارا جائرا وعمم على اجهزة القمع و الارهاب الصدامي ومنها : ( قيادة الفيلق الاول و الثاني و الثالث ، مديرية امن منطقة الحكم الذاتي ، مديرية المخابرات ، منظومة استخبارات ، مديرية امن محافظة اربيل ، قيادة فرع المكتب ، فيادة فرع صلاح الدين و قيادة فرع ديالى ) .
يتبـع
*رجائي فايد ، كاتب مصري مختص بالشؤون الكردية والعراقية عاش مع عائلته في ( هه ولير ) اكثر من 9 سنوات كاملة بدءأ من أول مايو 1979 حتى 26 اب 1988 ،عمل في التخطيط والمتابعة بالمنشاة العامة للدواجن في اربيل وثم في مديرية الثقافة الجماهيرية . لقد وثق الكاتب في كتابه( اربيل 88 هه ولير 99 ـ حتى لاتضيع كردستان) جرائم النظام البائد وتفاصيل الاعدامات الجماعية بحق الاطفال والشباب في شوارع اربيل ، اضافة الى ( دور رؤساء الدوائر من البعثيين ـ عربأ واكرادأ ـ والميليشيات والعصابات المسلحة البعثية على اختلاف انتماءاتهم القومية في تدمير كردستان ارضأ وشعبأ .
1 ـ ( اربيل او هه ولير ـ Hewlêr) وهو صيغة معدَّلة من ( هُورْ لَير ـ خُورْ لَير ) والتي تعني (معبد الشمس )، وهي اقدم مدينة في العالم من حيث بقائها مأهولة منذ نشأتها حتى الان ، قال (ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي ) في كتابه (معجم البلدان ) ، عن مدينة أربيل وقلعتها : ان اربيل هي قلعة ومدينة كبيرة في فضاء واسع من الأرض. ثم أصبحت القلعة مقرا للامير الاتابكي سنة 539هـ. يبلغ ارتفاع القلعة 415 م عن مستوى سطح البحر وعن سطح المدينة يبلغ ارتفاعها حوالي 26 م اما مساحتها فتبلغ 102.190 متر مربع.
التعليقات