&كنت كتبت الكثير عن الأسباب الحقيقية وراء انهيار الإتحاد السوفياتي لكن أحداً من عتات المتمركسين لم يغير أو يبدل عن الزعم بأن البيروقراطية والجمود العقائدي هما اللذان عملا على تفكيك الاتحاد االسوفياتي. مثل هذه المزاعم البائسة لا يمكن أن تصدر عن شخص له علم أولي بمبادئ الماركسية الرئيسة والأساسية، كما ليس له أدنى علم بطبيعة دولة دكتاتورية البروليتاريا التي كانت قائمة في الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين ووسائلها في الحكم. لم تكن الدولة حينذاك هي الآمر الناهي صاحبة الولاية كما في الدول البورجوازية، بل كانت هي المأمور المكلّف بتنفيذ قرارات العمال. منذ العام 1928، وقد استعادت روسيا عافيتها بعد حروب مدمرة استمرت على أرضها ثمان سنوات، إنتهج الاتحاد السوفياتي سياسة التنمية الخماسية التي يقررها الشغيلة في مختلف القطاعات بخصوص مختلف شروط الإنتاج بعد خمس سنوات. تلك الشروط يقررها العمال المتحمسين للعمل الاشتراكي دون أي تدخل من خارج وحدتهم الانتاجية. مجمل شروط الانتاج المحددة بعد خمس سنوات في مختلف وحدات الإنتاج في الاتحاد السوفياتي كانت تشكل الخطة الخماسية التي يقررها الحزب الشيوعي في مؤتمرة العام بحضور آلاف المندوبين عن منظمات الحزب في جميع المدن والدساكر السوفياتية. وهكذا تكون وظيفة الدولة السوفياتية الرئيسية والوحيدة تقريباً هي تطبيق الخطة الخمسية التي قررها عمال الاتحاد السوفياتي بكل حذافيرها تحت طائلة المسؤولية. لدى الإنتهاء من الخطة يعقد الحزب مؤتمره العام ويجازى كل من قصر في إنجاز محددات الخطة ويُكافأ العمال بزيادة معاشاتهم وخفض عام لأسعار السلع. وهكذا فإن رجال الدولة في مكاتبهم يجدون أنفسهم غرقى في إملاءات الخطة الخمسية حتى لا يسمح لهم باتخاذ أية قرارات خارج الخطة أو معاكسة لها. وإذا ما طرأت بعض القرارات فيما يخص الشؤون الدولية فلا يبت فيها إلا بعد مناقشتها من قبل العمال في مختلف وحدات الإنتاج وهو ما كان يبث على الراديو مباشرة.

أمام هذه الصورة المكتملة لمجريات ممارسة السلطة في دولة دكتاتورية البروليتاريا ليس إلا الحمقى أولئك الذين يدعون أن البيروقراطية كانت العامل الحاسم في انهيار الإتحاد السوفياتي.

الصورة التي نرسمها هنا هي صورة دولة دكتاتورية البرووليتاريا التي انتهت فعلياً في سبتمبر ايلول 1953 حين ألغى الحزب بعد رحيل ستالين الخطة الخماسية الخامسة خلافاً للقانون والنظام، وانتهت رسميا في العام 1961 حين أعلن خروشتشوف أمام مندوبي الحزب الشيوعي في مؤتمره العام الثاني والعشرين الاستغناء عن دولة دكتاتورية البروليتاريا والاستعاضة عنها بما سماه " دولة الشعب كله " مقلداً الحكومات البورجواوية في الغرب الرأسمالي. وفي المؤتمر العشرين 1956 لم يجر الحديث عن أية خطة اقتصادية مما دعا خروشتشوف إلى الدعوة لمؤتمر استثنائي للحزب 1959 ليقرر خطة تنمية سباعية لم يتحقق منها شيء، وجعلها سباعية استثناءً كي ينال سماحاً من العسكر.

بغياب خطة التنمية التي ترسم سلفاً لخمس سنوات قادمة ما على رجال الدولة القيام به في مكاتبهم يمكن الحديث عن البيروقراطية حين يكون رجال الدولة أحراراً بإملاء ما يرغبون في تنفيذه. بعد إلغاء الخطة الخمسية الخامسة في سبتمبر ايلول 1953 لم يكن هناك في الاتحاد السوفياتي خطة حقيقية للتنمية وهو ما سبب انحدار الاتحاد السوفياتي نحو الانهيار.

&

يمكن الجديث عن بيروقراطية الدولة بغياب أية خطة تنموية حقيقية محددة سلفاُ وهو ما كان في الاتحاد السوفياتي منذ إلغاء الخطة الخماسية الخامسة في سبتمبر ايلول 1953 وحتى الانهيار في العام 1991. لكن هل مارست الدولة السوفياتية السلطة خلال كل تلك الفترة الطويلة التي امتدت لأربعة عقود بصورة بيروقراطية من المكاتب؟ وقوع إنقلابين عسكريين ضد رأس الدولة السوفياتية ينفيان نفياً قاطعاً صفة البيروقراطية عن الدولة إنْ قبل كل انقلاب أم بعده. الإنقلاب الأول كان من تدبير مارشال الاتحاد السوفياتي وزير الدفاع جوكوف في يونيو حزيران 1957 وانتهى إلى طرد جميع البلاشفة الخمسة من المكتب السياسي للحزب الذي سحبوا الثقة من خروشتشوف وهو أعلى سلطة في الدولة والإبقاء على اثنين فقط خروشتشوف نفسه الذي أعيد تثبيته أميناً عاماً للحزب وصديقه ميكويان الذي لم يسحب الثقة، علما بأن عضو المكتب السياسي لا يجوز طرده إلا من قبل محكمة خاصة بعد محاكمة علنية وجوباً. والإنقلاب الثاني كان في أكتوبر 1964 حين استُدعي خروشتشوف على عجل إلى مركز الحزب في موسكو ليجد هناك جنرالات الجيش يهددونه بالقتل أو بالاستقالة فاختار الاستقالة.

لا يجوز القفز عن هذين الانقلابين في السلطة الحاكمة ليُقال أن ثمة دولة بيروقراطية في الاتحاد السوفياتي آنذاك. يشير الإنقلابان إلى أن العسكر كانوا قد غدوا أصحاب الدولة حال رحيل ستالين وهم الذين أرغموا الحزب على إلغاء الخطة الخماسية الخامسة من أجل تحويل الأموال المخصصة لانجازها إلى الانتاج الحربي كما أشار القرار. منذ العام 1953 تحول الاتحاد السوفياتي إلى دولة عسكرية، والعسكرة هي دائماً ضد الاشتراكية كما كان يؤكد يوسف ستالين. الدولة العسكرية ليست دولة بيروقراطية بالطبع فبدل أن كانت الدولة البروليتارية تنتج البضائع من أجل الوصوال إلى الشيوعية، تنتج الدولة العسكرية غير الإمبريالية الأسلحة من أجل الوصول إلى انهيار الاشتراكية، بل حتى الدولة الامبريالية لا تتخصص بانتاج الأسلحة ولا تفرط فيه كما دأبت الدولة السوفياتية بعد الخمسينيات، وكان يخطئ المراقبون في تفسير ذلك على أنه سباق في التسلح مع الولايات المتحدة التي أبدت عجزاً فاضحاً في الحرب الكورية عندما قرر السوفييت الانغماس في الإنتاج الحربي.&

حديث البيروقراطية يجوز فقط حين تكون الدولة لا تمثل أي طبقة اجتماعية مثل الدولة المافيوية أي دولة العصابة كالدول التي قضى عليها الربيع العربي. في دولة العصابة يعمل أعضاء العصابة على توفير مختلف الإمتيازات لأنفسهم ضاربين بعرض الحائط احتياجات مختلف طبقات الشعب.

لم يسبق لرجل الدولة السوفياتية أن حظي بأية امتبازات. ستالين نفسه وهو رأس الدولة لثلاثين عاماً شكا لوالدته أن راتبه لا يكفيه. وكتب لابنه فاسيلي بأن ليس لديه النقود ليشتري له بذلة جديدة مثل زملائه. وحال رحيله سجلت كل مورثاته في أربعة جاكيتات قديمة وثلاث بناطيل وغليونان ؛ هذا كل ما امتلكه رأس الدولة. رفاقه في القيادة ل يكونوا أفضل حالاً منه. بل إن زوجة رئيس الجمهوريات ميخائيل كالينين حكم عليها بالحبس ؛ وزوجة رئيس الوزراء مولوتوف تم سجنها مرتين الأولى في العام 41 والثانية 51 ؛ وتم حبس شقيق وزير التخطيط كاغانوفتش. لم يكن أحد من رجال الدولة يمتلك حساباً في البنك ولا حتى بيتاً أو سيارة شخصية. الأمور لم تتغير بصورة ملحوظة بعد إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا وقيام دولة البورجوازية الوضيعة التي انتحل لها خروشتشوف اسم "دولة الشعب كله".

الددولة السوفياتية قبل رحيل ستالين كانت تمثل حقاً البروليتاريا والدلالة القاطعة على ذلك هو أن الاتحاد السوفياتي انتقل من درجة الدولة الأدني في السلم الصناعي إلى الدرجة قبل الأعلى لا تسبقه إلا الولايات المتحدة خلال عشر سنوات فقط 1928 – 38 ولا يخامرني أدنى شك في أن الاتحاد السوفياتي كان سيسبق الولايات المتحدة في الإنتاج لو تم تطبيق الخطة الخمسية الخامسة حتى النهاية في العام 1956 وهو ما تشير إليه الأرقام الواردة فيها. أما الدولة التي ألغت عمليا الخطط الخمسية للتطور الإقتصادي والإجتماعي لا يمكن أن تكون دولة دكتاتورية البروليتاريا ولا دولة المافيا بل هي دولة العسكر الشريحة الأقوى بين شرائح طبقة البورجوازية الوضيعة المتعددة وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية حيث كان لها الدور الرئيس في هزيمة ألمانيا بعد أن تكبدت طبقة البروليتاريا الخسائر الفظيعة بعد أن شغلت مقدمة المتصدين للعدوان النازي الهمجي.

ما يطلق عليه اليوم اسم الدولة السوفياتية كان في حقيقة الأمر دولتين مختلفتين ومتضادتين: دولة العمال 1917 – 1953 بقيادة الحزب الشيوعي، ثم دولة البورجوازية الوضيعة 1954 – 1991 بقيادة العسكر لكن أياً من الدولتين لم تكن دولة بيروقراطية. تاريخ الدولة السوفياتية كتب حروفه الصراع الطبقي حيث كانت الغلبة للبروليتاريا قبل الحرب العالمية وغدت للبورجوازية الوضيعة بعد الحرب.

(يتبع)