انشغل الأردنيون بقضية مشاركة الكاتب والناشط السياسي المثير للجدل ناهض حتر على صفحته في الفيسبوك، رسماً كاريكاتيرياً رأى فيه كثيرون مَساً بالذات الإلهية، رغم أن فكرة الرسم تنحصر في أن إله الإسلام الرحيم المتسامح لا يمكن أن يكون إله الدواعش، الذين يبررون القتل للمختلفين معهم في العقيدة والمذهب أيضاً، بل وحتى المختلفين معهم على جزئية تفصيلية من نفس المذهب الذي يدعون تمثيله، ويبدو أن القضية "ليست رمّانه وإنما قلوب مليانه"، فقد استذكر الجميع إخواناً مسلمين وليبراليين وقوميين، أن حتر نشر يوماً وصفة للقضاء على الإرهاب الإسلامي، طالب فيها بحظر تدريس مادة الدين والتاريخ الإسلامي في المدارس، وتحويل 90% من المساجد إلى مكتبات عامة أو مقاهي، وأن يكون لكل مليون مواطن رجل دين واحد فقط، واعتبر أن الحرية لاتمنح لشعب يريد تحكيم شرع الله، وأن الحرية لاتصلح للإسلاميين، وهم أخطر من أي فيروس على وجود الإنسان.
كتابات ومواقف حتر لاتروق لمعظم الأردنيين، وخاصة ما تعلق منها بتأييده للنظامين السوري والإيراني ومعهما حزب الله، إضافة لموقفه المنفر والاستفزازي من اللاجئين السوريين في الاْردن، وإقليميته البغيضة ضد الفلسطينيين، والمغطاة بدعواته المتكررة لقوننة قرار فك الارتباط. غير أن التعامل مع كل هذا باعتباره خلافاً سياسياً أو فكرياً، يدعو للسؤال عن الحملة التكفيرية التي يتعرض لها، ويشترك فيها طيف واسع من المجتمع، ويؤججها متأسلمون يرفضون الترحم على مسيحي، حتى ولو عاش جاراً لهم لعدة عقود، والسؤال عن موقف المؤمنين بحق الاختلاف وحرية الرأي، مع أن حتر بنرجسيته الطاغية يرفض الاختلاف، وهو مستعد لقتل كل من يخالفه الرأي.
أدرك حتر سريعاً نتائج ما جنت يداه، فنشر توضيحاً قال فيه إن الذين غضبوا من هذا الرسم هم في الغالب، إخوان مسلمون داعشيون، يحملون الصورة المريضة لعلاقة الإنسان بالذات الإلهية، استغلوا الرسم لتصفية حسابات سياسية لا علاقة لها بما يزعمون، لكن ذلك لاينفي أنه أخطأ حينما نشر رسماً يستفز المسلمين والمسيحيين في آن معاً، وهو خطأ لا يمكن تبريره أو الدفاع عنه، وقد استنزف الكثير من مكانته ككاتب يقول إنه ينتمي لفكر و أيديولوجيا محترمة عند الجميع، رغم الاختلاف معها.
لعل في خطيئة حتر مناسبة لتصحو الحكومة على واقع يدعوها للتغيير في ساحة الإعلام، وهي تعرف واقعه المزري، وأن تدرك أن الحقيقة ليست حكراً عليها وعلى كتابها في الصحف، فالديمقراطية تحتاج إلى جانب توفير الأمن والأمان، توفر العدالة الإجتماعية، و لا يتحقق ذلك بالإجراءات القمعية ولا بتكميم الأفواه، وإذا كان رأس الدولة يؤكد أنه لن يسكت عن أي شخص يحاول أن يزرع الفتنة أو يسيء إلى عقيدتنا ومختلف الأديان، فليس معنى ذلك أن تشهر السلطات سيفها، فالأردن بلد بُني على أساس التعاضد بين مكوناته كافة، وهو يشكل نموذجاً يقوم على التسامح والتآخي والعيش المشترك والاحترام المتبادل بين جميع مكوناته، مسلمين ومسيحيين، وهو يؤكد في رسالة للمجتمع والسلطات أن تحقيق العدالة على الجميع وضمان سيادة القانون هي ركيزة أساسية للدولة، وجميع أجهزتها ومؤسساتها ملتزمة بتطبيق القانون لحماية حقوق المواطنين.
ومع أن الجميع يعرف أن حتر لايمثل غير ذاته، فإن مجلس رؤساء الكنائس في الأردن، وعلى وقع الضجة المُثارة ضد المسيحيين، عبّر عن رفضه واستنكاره لكل عمل، سواء كان من فرد أو جماعة تمس بالمقدسات أو المشاعر الدينية. وأكد استنكاره الشديد لكل رسم أو تعبير أو مقالة لا تحترم مشاعر المؤمنين وتتطاول على قدسية الذات الإلهية أو الأنبياء أو الرسالات السماوية، وشدد أن ما شهدناه مؤخراً يمس بمشاعر كل الأردنيين مسلمين ومسيحيين، وان مثل هذه الاعمال تخالف تعاليم الديانة المسيحية، وأعلن المجلس أنه يتبرأ من كل عمل مشين يمس بالذات الالهية فالله هو الواحد الخالق القدير في الإسلام والمسيحية على حد سواء. أما دائرة الإفتاء العام، فإنها لم تكن موفقة في بيانها الذي قالت فيه إن المسلمين جميعاً "ولم تقل المواطنين" يتحملون مسؤولية الدفاع عن الذات الإلهية والذب عنها.
الرسم الذي تبناه حتر " وهو يجاهر بعدم الإيمان" لم يكن المرة الأولى التي ينشر فيها منشوراً مسيئاً للإسلام أو للأردنيين، فقد نشر عبر صفحته على "فيسبوك" عشرات المنشورات، من الطعن في القرآن الكريم، إلى السخرية من الرسول عليه الصلاة والسلام، وصولاً للتطاول على الذات الإلهية، ويبدو أنه ظن "وبعض الظن إثم" أنه يمتلك حصانة غير معلنة، أو أن رهانه على السكوت عنه إحدى متطلبات المرحلة، التي تقتضي عدم إثارة مشاكل جديدة مع دمشق، وذلك لقربه من النظام السوري، وهو وإن كان يرى في نفسه رجلا ذا توجهات وطنية، فإن أي متابع لصفحته الشخصية يعرف جيداً أنها معنية بكل شيء إلّا الوطن، وقد ظنه البعض سورياً، أو إيرانيا، من خلال ما يتبناه من أطروحات، وهو يتبنى على طريقة بن لادن تقسيم الناس إلى فسطاطين، مريدوه من أنصار النظام السوري، أو أنصار داعش، والمقصود بهم كل من خالفه الرأي من أفراد و جماعات ودول، فهو لا يفرق بين من يخالفه الرأي، ان كان مسيحياً أو مسلماً او يسارياً، فالكل هنا بالنسبة له دواعش.
لم نكن يوماً على وفاق مع ناهض، وكنا دائماً ضد طروحاته عن الخصوصية الأردنية ضد الفلسطينية، ولم نؤمن يوماً بأننا منقطعين عن ما حولنا رغم كل فذلكاته في هذه المسألة، ومعروف أنه ينطلق من إقليمية بغيضة بكل المقاييس، مستهدفاً تقديم ذاته "للخارج وليس لنا" كقائد وزعيم وطني يتمسح أمامنا برمز الطهارة الأردنية وصفي التل... ولكن للحقيقة لابد من القول إن المنشور المسيئ الذي تبناه، لم يكن يقصد بالأساس المس بالذات الإلهية، بقدر ما هو سخرية من التصور الداعشي للعلاقة بين الإنسان وخالقه، وقدم بخطيئته هذه فرصة "ذهبية" للمتأسلمين، لشن حرب على الديانة المسيحية التي ينتمي لها بحكم الولادة، فمسيحيو الأردن ملح الأرض ونوارها ودحنونها وعبير خبزها المعجون بعرق الأمهات، ولا علاقة لهم بما "اقترفه" ناهض، إن كان سيئ النية عندما نشر الرسم البذيئ.
التعليقات