&

لا وجود لاسرار ولا وجود لصدف. هناك واقع موجود على الارض الشرق الاوسطية. بعد قرن على توقيع اتفاق سايكس ـ بيكو، وهو في الاصل اتفاق سرّي بريطاني ـ فرنسي استهدف اقتسام تركة الدولة العثمانية قبل انهيارها رسميا، هناك قصة نجاح في المنطقة. اسم هذه القصّة الاردن، اي المملكة الاردنية الهاشمية. من يريد دليلا على ذلك &يستطيع التمعن في مصير بلدين هما سوريا والعراق اراد كلّ منهما في مرحلة معيّنة ابتلاع الاردن او جعله جرما يدور في الفلك السوري اوالعراقي. لم يجد عراقيون وسوريون كثر مكانا يلجأون اليه غير الاردن. اكثر من ذلك، تحكّمت العقدة الاردنية بجمال عبد الناصر طويلا. الى اين اخذ عبد الناصر العرب والمصريين والى اين اخذ الاردن الاردنيين؟ من غير الاردن حمى الشعب الفلسطيني واستوعب الهجرات الملاحقة، بما في ذلك هجرة الفلسطينيين من الكويت اثر الغزو العراقي المشؤوم في العام 1990؟
كانت استقالة حكومة الدكتور عبدالله النسور ودعوة الملك عبدالله الثاني الى انتخابات نيابية فرصة اخرى ليتأكد ان الاردن ليس قادرا على مواجهة العواصف الاقليمية، بعد سبعين عاما على استقلاله، فحسب، بل انّه يعمل بشكل يومي ايضا على جعل مؤسسات الدولة تواجه مسؤولياتها. الاردن بلد يعرف ماذا يريد ولا يخاف الملك عبدالله الثاني من الحديث عن المشاكل التي تعاني منها المملكة، خصوصا في ظلّ وجود هذا العدد الكبير من اللاجئين السوريين في اراضيها. يعترف ان هناك مشكلة اقتصادية كبيرة، لذلك يطلب من رئيس الحكومة الجديد الدكتور هاني الملقي الذي يمتلك خلفية اقتصادية وانمائية " اعداد حزمة متكاملة من الاجراءات الكفيلة بمواجهة هذه التحدّيات الاقتصادية خلال الاسابيع المقبلة ليبدأ تنفيذها في اسرع وقت ولتكون معيارا اساسيا في اداء عمل الحكومة".&
لا يكفي ان تعمل المؤسسات الاردنية &بشكل طبيعي وان تحترم المواعيد الدستورية بعد سبعين عاما على الاستقلال، كي يمكن الكلام عن نجاح كامل. كان النجاح الاوّل في ان الاردن يفكّر في المستقبل. يفكّر بحقوق المرأة والتربية والتعليم العالي وفي حكومة الكترونية وفي الحرب على الفقر والبطالة وتنويع مصادر الطاقة وخلق فرص عمل للشباب. اكثر من ذلك، هناك قانون جديد للانتخابات يعتمد النسبية. لعلّ هذا القانون يساعد في قيام مجلس للنواب فيه تكتلات حزبية تكون فيه مواجهة بين برامج اقتصادية واضحة المعالم تصبّ في خدمة البلد، بدل ان يكون مجلس النوّاب مسرحا لمناورات سياسية ومزايدات. انّها مناورات ومزايدات من النوع الذي لا يتقنه سوى الفاشلين الساعين الى تغطية عجزهم بشعارات كبيرة طنانة من نوع الذي تعوّد الاخوان المسلمون على رفعه عندما كانوا في مجلس النوّاب او عندما قرروا البقاء خارجه، كما حصل في الانتخابات الماضية التي قرروا مقاطعتها.
لا يمكن عزل النجاح الاردني عن الاستمرارية. هذه الاستمرارية هي سرّ الملوك الهاشميين الذين تمسكوا منذ البداية بان "الاردن وارث الثورة العربية الكبرى ونهضتها" كما قال عبدالله الثاني في الخطاب الاخير الذي وجّهه الى الاردنيين في ذكرى الاستقلال. اضاف: " ان الاردن بُني على مبادىء العدالة والمساواة والمواطنة وسيادة القانون، لا فارق بين الاردنيين الّا بما يقدّمون لوطنهم. استلهم من الرؤية الثاقبة للشريف الحسين بالدعوة الى الوحدة والحريّة والتعددية ومن دعوته الى التعايش والاخاء الديني حين قال: العرب عرب قبل ان يكون مسلمين ومسيحيين". لاحظ انّ "بلدنا يقف قويّا بمبادئه، عزيزا بكرامته، يصمد ويتقدّم رغم الصعاب بينما تنهار دول واوطان".
يدور كلّ تاريخ الاردن حول الانسان. عمل الملك عبدالله الاوّل من اجل الانسان وانقاذ المنطقة من الكوارث المقبلة عليها. وبنى الملك الحسين الاردن وحصّنه من اجل الانسان الاردني. حاول ادخال منطق الى منطقة لا تريد ان تعرف ما هو المنطق. دفع الاردن غاليا ثمن تلك السياسات التي جعلت جمال عبد الناصر يسقط في الفخّ الاسرائيلي، اي حرب 1967، هذا الفخّ الذي يتبيّن كلّ يوم ان النظام الذي اقامه حافظ الاسد مذ كان وزيرا للدفاع في العام 1966، لم يكن بعيداعنه.
ابعد من الدعوة الى انتخابات عامة في الاردن ومن تشكيل حكومة جديدة تشرف على هذه الانتخابات، صار الاردن، الذي يحتفل بالذكرى المئوية للثورة العربية، المعقل الاخير لما بقي من عروبة حضارية في المشرق العربي. يمكن الحديث بسهولة تامة عن تحوّل العراق الى مستعمرة ايرانية. يمكن الحديث عن المشاركة الايرانية في الحرب التي يشنّها النظام العلوي على سوريا واهلها من اجل تفتيتها. يمكن الحديث ايضا عن المخاطر التي يتعرّض لها لبنان يوميا بعد وضع "حزب الله" يده على قسم من مؤسسات الدولة وبعدما باتت لديه ادوات مسيحية من نوع &النائب ميشال عون يغطي بها رغبته في استيعاب البلد كله ليكون لبنان بدوره مستعمرة ايرانية.
لم يبق سوى الاردن ملاذا في هذا المشرق العربي البائس حيث لم يعد من يفكّر في قيمة الانسان او في كيفية بناء مؤسسات لدولة في ظلّ التسامح الديني والتفكير في تجاوز الخطرين الاكبرين. هذان الخطران هما الارهاب والشرخ السنّي ـ الشيعي الذي يعيد العرب مئات السنين الى خلف. وحده الاردن، يتجرّأ عبر عبدالله الثاني على قول ما لا يستطيع كثيرون قوله.