يترافق احتمالا&التصادم والتفاهم في لغتيّ&كل من الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية الإيرانية بشقّيها المبطّن والعلني، إنما استمرار طهران في دفع واشنطن الى الخط الأحمر يغامر فعلاً بعمل عسكري مكلف لإيران بغض النظر إن كان محصوراً بنزاعٍ عسكري قصير الأمد أو ان أسفر عن عمليات عسكرية شاملة في حرب موسّعة ومدمَّرة. القيادة في طهران باتت في موقع حرج للغاية، وبات عليها النظر جدّياً في الخيارات المتاحة أمامها والتي تتطلّب منها تنازلات صعبة وإصلاحات جريئة لمنطق النظام الذي ولّدته الثورة الإيرانية قبل 40 سنة. الرئيس الأميركي دونالد ترامب سرّب الى القيادة الإيرانية أكثر من رسالة عنوانها الاستعداد للأخذ والعطاء،&وهو بَعَث التطمينات اليها مثل إعلانه أنه&ليس وراء اسقاط النظام في طهران. عدم التقاط القيادة الإيرانية فرصة التدقيق في الخيارات أمامها سيكون غلطة تاريخية بالذات إذا ثابرت في استفزاز ترامب واستدراجه الى الخط الأحمر. المزاعم الإيرانية ان ترامب لن يجرؤ على الحرب لأنه وأميركا معه جبناء، مزاعم صالحة للتعبئة العاطفية والاستهلاكية&والشعبوية. عرض العضلات في مياه الخليج قد يؤدي الى فوائد في حديث التفاهمات على أساس معادلة الجلوس الى طاولة المفاوضات من موقع القوي. لكن الإفراط في المكابرة خطير جداً&كما هو افتراض القيادة الإيرانية ان دونالد ترامب لن يريد الحرب مهما استفزته لأسباب انتخابية.

بغض النظر عمّا إذا نجحت طهران في استدراج ترامب الى حرب لا يريدها أم فشلت، ان إيران مُطوّقة الآن بعقوبات خانقة وفق استراتيجية ترامب، وهي مُحبَطة في رهانها الأوروبي ليس فقط في مسألة العقوبات وإنما أيضاً ازاء التحاق المانيا وفرنسا بتأسيس شبه حلف عسكري لتأمين&الملاحة في الخليج سوياً مع&الولايات المتحدة، كما انها تلاحظ حتما تحييد الصين لنفسها في الأزمة الراهنة وتقرأ جيداً الرؤية والمبادرة الروسية التي تقترب من أطروحة للمستقبل بعيداً عن أي احتضان للمواقف الإيرانية.

واقع الأمر ان لا مناص للقيادة الإيرانية من اعادة النظر في منطق نظامها لإعادة اختراع نفسها وتطوير منطقها بما يتلاءم مع مصلحة الشعب الإيراني ويتطابق مع عدم جواز انشاء جيوش غير نظامية تابعة لها في دول أخرى ذات سيادة. فلا يحق لأية دولة في العالم أن تتعدى على سيادة دولة أخرى من خلال تصدير نموذج نظامها&فرضاً بإنشاء وتسليح وتمويل قوات غير نظامية مهامها تلبية ما يريده مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران من أجل توسيع النفوذ الإيراني&اقليمياً. حان الوقت بعد 40 سنة&لأن يقوم النظام في طهران بإصلاح نفسه&وتطوير منطق وجوده بما يتماشى مع&واقعه،&ومع الشرعية الدولية.

حان الوقت لقادة الدول الأوروبية التي سبق لها في زمن الرئيس باراك أوباما وصادقت ضمناً معه على التوسعية الإيرانية حِرَصاً على الاتفاقية النووية، حان لها ان تواجه نفسها وتلعب أخيراً دوراً بنّاءً عنوانه ليس مسايرة طهران وتطييب خاطرها وإنما ابلاغها ان لا مجال لها الآن سوى بإصلاح منطق النظام والتوقف عن انشاء ميليشيات أو جيوش غير نظامية في الدول السيادية.

حان للرئيس ترامب أن يوضح تماماً ان المطلوب هو إصلاح&النظام في طهران وتعديل منطقه، وألاّ يصغي لأصوات إدارة أوباما التي تدعو الى التركيز قطعاً على الناحية النووية والباليستية من الأزمة مع إيران والى غض النظر مجدّداً عن ناحية فرض إيران الجيوش غير النظامية التابعة لها في العراق واليمن ولبنان وما يشابهها في سوريا. فالمسألة ليست مجرد تكرار أنماط الاستغناء عن الأصدقاء الملتصقة بالسمعة الأميركية.&ان المسألة أعمق وهي تدقّفي عصب منطق السياسة الخارجية الأميركية لتختار إدارة ترامب إذا كانت جدّية في استراتيجياتها المبنية على العقوبات نحو إيران و"حزب الله" ولاحقاً نحو تركيا و"الإخوان المسلمين" بهدف احتواء التطرّف الإسلامي. أو ان ادارة ترامب&ستمضي بما صنعته إدارات قبلها ونفّذته إدارة أوباما ببراعة وهو تمكين إيران وجيوشها غير النظامية، مع تشجيع ودعم تركيا ومشروع "الإخوان المسلمين"، وبالتالي تنمية الفتنة الشيعية&–&السُنيّة كاستراتيجية أميركية في الشرق الأوسط.

ترغيب إيران بإصلاح وتعديل النظام سيلاقي معارضة كبيرة سيما لدى "الحرس الثوري" الذي هو النموذج والقائد الفعلي للجيوش غير النظامية مثل "الحشد الشعبي" في العراق و"حزب الله" في لبنان، الى جانب تنظيمات وميليشيات مشتقة منها في اليمن ومنها في سوريا وخلايا أخرى في دول الخليج العربية. فإصلاح وتعديل منطق النظام يعني في ذهن "الحرس الثوري" إلغاء الذات وإلغاء مشروع الثورة الإيرانية برمّته. فالترغيب سيكون في غاية الصعوبة، أقرب الى الاستحالة.

إنما إذا أتى&الترغيب ضمن صفقة متكاملة تنقذ النظام في إيران من الانهيار&–&اما لأسباب اقتصادية ولّدتها استراتيجية إدارة ترامب أو لأسباب عسكرية استدعتها القيادة الإيرانية&–&قد يكون عند ذاك لا مناص أمام أركان القيادة الإيرانية من عض اللسان، أو شرب كأس السم، والموافقة على تعديل وإصلاح منطق النظام.

المهمّ ألاّ يقع الرئيس ترامب في فخ التدريجية والمساومة والمناقصة بما يؤدي الى تقسيط المطلوب من طهران واستبعاد مسألة التدخلات الإيرانية في الدول العربية عبر الجيوش غير النظامية والتي تصنّف إدارة ترامب بعضها بمنظمات إرهابية.

دونالد ترامب يقول انه ليس في عجلة. وهو على حق. فالعقوبات مؤلمة للنظام في طهران ومفيدة لترامب لأنها أدّت الى نتائجها المرجوّة بما في ذلك تعرية طهران لنفسها باستفزازاتها الى العمل العسكري ومقاومة ترامب للمواجهة العسكرية بتأنّيه. هكذا انقلب الانطباع بأن دونالد ترامب هو الذي يريد الحرب وبات واضحاً انه يحاول تفاديها.

عندما تتوقف طهران عن التهوّر الاستراتيجي ستسعى وراء صفقة جانبية تلبّي في اعتقادها حاجات ترامب الانتخابية لتجنّب الدخول في حرب معها. ستساوم على طريقة البازار كي يخفف الرئيس الأميركي العقوبات عليها ويجدّد اعفاءات شراء النفط الإيراني&من العقوبات لبعض الدول المهمة المستوردة للنفط من ايران، وذلك مقابل تنازلات تدريجية في المجال النووي والصواريخ الباليستية. ستتبنى مبدأ التنقيط أو التقطير اعتقاداً منها ان دونالد ترامب في&حاجة الى مساهماتها "السلميّة" ليتفادى التورط في حرب عشيّة الانتخابات الرئاسية.

برنامج إيران النووي والصاروخي ليس أهم لديها من برنامج تصدير نموذجها وزرع جيوش وميليشيات تابعة لها في الجغرافيا العربية. لذلك، ليس مستبعداً أن تتكرر الصفقة "الأوبامية" التي بموجبها تنازلت طهران عن مسائل نووية لكنها تمسّكت قطعاً بشرط استبعاد سياساتها الإقليمية عن طاولة المفاوضات. هذا إذا خضع دونالد ترامب لتلبية طهران كما سبق ولبّاها باراك أوباما. عندئذ يكون القرار الاستراتيجي الأميركي هو استكمال مشروع الفتنة الشيعية&–&السنية وتغذيته وتمكينه.

أحد الضالعين في صنع السياسة الأميركية الخارجية في عهد أوباما بالذات نحو منطقة الشرق الأوسط قال "أميركا لا يهمها أمر المنطقة. ترامب يعتقد انه ليس ضرورياً لنا ان نبقى في الشرق الأوسط. والأميركيون سئموا من الشرق الأوسط... أسعار النفط فقط هي التي تجعلهم يهتمون بها". رأيه ان "الصفقة الكبرى مستحيلة ديبلوماسياً" حالياً وان الوسيلة الوحيدة هي "معالجة المشاكل وحلّها&واحدة تلو الأخرى" ضمن استراتيجية متكاملة تمكّن العرب وإيران من الجلوس معاً الى الطاولة.

فكرة الجلوس معاً الى أية طاولة تبحث في أية ترتيبات أمنية مع إيران هو تماماً ما تريده الدول الخليجية التي تحتج على استبعادها عن طاولة المفاوضات مع إيران، كما سبق وحدث عند صياغة الاتفاقية النووية. إنما لا يكفي للدول العربية أن "تحتج وتتذمّر من واشنطن وتطلب مساعدتها" قال المصدر الأميركي بل على الدول الخليجية أن "تتقدم باقتراح اقليمي" وتطرحه الى الطاولة، سيما إذا كانت توسعيّة إيران ما يشغل بالها&"ولماذا على الولايات المتحدة أن تبالي إذا كانت&إيران توسعيّة". فكرته هي أن تُعالج المسألة النووية والصاروخية كأساس وأن يتم التعامل مع التوسعية الإيرانية&"على الهامش".

السعودية والإمارات بدأتا التطلع الى التنوّع الأمني في&علاقات مع روسيا والصين دون ان تنتقصا من&علاقاتهما الأمنية مع الولايات المتحدة. كلاهما واعٍ للمعادلات في الصفقات وفي المواجهات وللثمن الذي يمكن أن يكون على حسابهما إذا تم وضع إيران التوسعية على الرّف فيما تُعالج الأمور النووية والباليستية&تدريجياً. انما الهمّ الأكبر هو استمرار القيادة في طهران بالاستفزاز عسكرياً في مياه الخليج لدرجة تصل فيها الأمور الى حافة الهاوية وقد تسفر عن مواجهة عسكرية مكلفة للدول الخليجية العربية&بسبب انتقامات إيرانية.

مصدر روسي مطّلع على التفكير في طهران قال ان إيران ترفض قطعاً كل المقترحات المقدّمة اليها وهي واثقة ان التصعيد واختلاق أزمة سيكون في مصلحتها، ولذلك انها مستمرة&في التصعيد بإجراءات آتية "فهم يريدون اندلاع نزاع كبير" يعيد خلط الأوراق. قال ان "التصرف الإيراني الآن هو ببساطة خالٍ من التصرّف بمسؤولية"، وان "لا أحد نجح في اقناع إيران بالتوقف عن التصعيد وهذا خطير جداً لنا ولغيرنا"، سيما وان طهران تعتقد ان "تطوّر الأمور الى الأسوأ يوفّر الفرصة الأفضل للقلق والهلع".

رسالة إيران اليوم هي ان لا أمن في مياه الخليج بدون إيران، ولا أمان في مياه الخليج طالما إيران مطوّقة بالعقوبات. التهديدات الإيرانية أسفرت الى نتيجة عكس ما كانت تتمناه إذ ان المانيا وفرنسا اللتين كانتا في خندق الدفاع عنها في مسألة الاتفاقية النووية تلتحقان الآن بحلف أوروبي&–أميركي لتأمين الملاحة في&الخليج. الصين قد&تلبي دعوة الرئيس الأميركي الى المشاركة في تأمين الملاحة لناقلات النفط لأنها أكبر مستورد وقد تضطر للمشاركة في تسديد كلفة حماية الناقلات في مياه الخليج. وهذا بدوره سيكون عكس ما تتمناه القيادة الإيرانية.

حسابات القيادة الإيرانية تحتاج الى مراجعة. منطق النظام في حاجة الى اعادة اختراع الذات جذرياً وشمولية واقعية وواعية وحكيمة. فالنظام في طهران في مأزق، وهذااعتراف ضروري كأساس. أما المكابرة فإنها أسوأ استثمار في مستقبل النظام وإيران معاً.