بالورقة والقلم، كما يقولون، لا يمكن عزل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من منصبه في ضوء المعطيات الاحصائية الخاصة بتركيبة مجلس الشيوخ الأمريكي تحديداً، ولكن هذه&"العقبة"&لا تحول دون الاهتمام بتوابع التحقيقات التي يجريها الديمقراطيين الذين يسيطرون على مجلس النواب من أجل مساءلة ترامب بهدف عزله على خلفية اتهامات بسوء استخدام سلطاته، وهو تطور يستوجب البحث في أبعاده وخلفياته، كونه يخص رئيس أقوى دولة في العالم، والقطب الكوني المهيمن على صناعة القرار الدولي.&

جوهر الاتهامات يتعلق باشتباه في أن الرئيس ترامب قد حاول الضغط على نظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لإجراء تحقيق بشأن منافسه المحتمل في الانتخابات الرئاسية جو بايدن، حيث يقول ترامب إن جو بايدن، الذي كان نائبا للرئيس في إدارة باراك أوباما، ضغط من أجل إقالة النائب العام الأوكراني فيكتور شوكين في عام&2016&لحماية شركة يعمل بها ابنه هانتر بايدن.

وسيتم الكشف عن تفاصيل المكالمة التي أجراها الرئيس ترامب مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في&25&يوليو الماضي، &حيث أصر زيلينسكي في خطاب ألقاه إلى جوار ترامب مسبقا، على أنه لم&"يُضغط عليه"&من قبل ترامب خلال الاتصال الذي جرى بينهما.

في البداية وصف الرئيس ترامب إجراءات مجلس النواب بالتحقيق معه بأنها بمثابة&"مزحة"، وأشار ترامب إلى أن الأسباب المقدمة ضده&"محزنة"&وقائمة على&"خدعة"، وقال متعجبا&"عندما ينظرون إلى المعلومات، إنها مزحة.&عزل من أجل هذه الأسباب؟"، لكنه عاد في مقطع فيديو نشر عبر موقع&"تويتر"، ليحذر من أن الديمقراطيين يحاولون&"سلب حريات أساسية"، مشيرا إلى أنهم يستهدفونه رغم أنه&"يكافح من أجل الأمريكيين".

الواقع يؤكد تماماً أن من المستبعد أن تسفر تحقيقات مجلس النواب الأمريكي عن الإطاحة بترامب من البيت الأبيض حتى لو دعم مجلس النواب هذه الخطوة، حيث سيتم عرقلتها في مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريين.

الديمقراطيين بالتأكيد تدارسوا احتمالات تمرير إجراءات العزل، ويدركون جيداً أنها لن تمر من الكونجرس بمجلسيه، ولن تنتهي بعزل الرئيس، ولكنها قد تنتهي إلى الطعن في سياسته وتشويه صورته وتحويله إلى&"بطة عرجاء"&في العام الأخير من ولايته الأولى، فالديمقراطيين الذي فشلوا في اثبات مزاعم التدخل الروسي عام&2016&في الانتخابات الأمريكية لصالح ترامب ضد منافسته آنذاك هيلاري كلينتون، يحملون هذه المرة ملفاً مختلفاً ووقائع جديدة، يزعم فيها الديمقراطيون أن ترامب استخدم صلاحيات الرئاسة في الضغط على رئيس أوكرانيا بهدف الحصول على معلومات تضر بمنافسه السياسي الديمقراطي جو بايدن، وهو المرشح الأول عن الحزب الديمقراطي لمنصب الرئاسة للعام المقبل، وسيكون في مواجهة ترامب في السباق على الوصول إلى البيت الأبيض.، أي انها معركة&"كسر عظام"&مبكرة قد تؤثر في نتائج السباق الانتخابي الرئاسي الأمريكي.

بالإضافة إلى الديمقراطيين في مجلس النواب، هناك أطراف عدة من خصوم ترامب في هذه الجولة، منهم صحيفة&"واشنطن بوست"&ووسائل إعلام أمريكية أخرى يتهمها الرئيس ترامب بأنها&"غير نزيهة"، والآلية الدستورية للتعامل مع أي رئيس أمريكي يتهم بارتكاب أفعال غير قانونية او غير أخلاقية تكمن في إجراءات عزل يتبناها غالبية نواب مجلس النواب، ولو تمت إدانته من جانب مجلس النواب لوجود&"جريمة"&تؤدي الى عزل الرئيس، باتفاق أغلبية أعضاء مجلس النواب، بما يمهد لإقالته بأغلبية ثلثي أصوات أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي.

بعض التحليلات ترى في هذه الخطوة مغامرة من جانب الديمقراطيين أيضاً ويستندون إلى أن رئيس مجلس النواب نانسي بيلوسي قد اعتبرت من قبل أن هذه الخطوة ستكون بلا معنى في ظل وجود غالبية جمهورية تسيطر على مجلس الشيوخ، بل يمكن أن تلحق الضرر بالفرص الانتخابية للديمقراطيين في دوائر الكونغرس المعتدلة.

حسابات الربح والخسارة &بالنسبة للديمقراطيين مهمة للغاية، ويبدو أنهم آثروا المضي قدماً لإضعاف الرئيس ترامب الذي تبدو فرصه فوزه في السباق الانتخابي المقبل عالية، لذا فإن خطوة الديمقراطيين تستهدف بالأساس الحد من هذه الفرص على طريقة المثل الشعبي القائل العيار اللي مايصيب يدوش"، فالبدء بالتحقيقات في مجلس النواب ومن ثم إمكانية إدانة الرئيس ترامب في المجلس ستتم عرقلتها في مجلس الشيوخ لعدم موافقة ثلثي الأعضاء المائة على عزل الرئيس، الذي سيبقى في هذه الحالة ولكنه سيخوض الانتخابات جريحاً سياسياً يمكن الطعن في نزاهته والنيل منه بصورة أكبر من ذي قبل.

في المقابل فإن الرئيس ترامب قد أفلت منذ بداية رئاسته من اتهامات بانتهاك قانون الانتخابات والحصول على دعم روسي للفوز في الانتخابات الرئاسية التي جاءت به للسلطة، ثم اتهامات بدفع أموال لممثلة اباحية مقابل الصمت وعدم نشر ما حدث بينهما، ويمكن أن يخرج من هذه الأزمة السياسية أقوى من ذي قبل لاسيما إذا اثبتت التسجيلات عدم وجود ما يدينه فعلياً، ووقتها سيكون فوزه بالانتخابات الرئاسية المقبلة مسألة شبه مضمونة.

اللافت في القصة كلها أن بعض اعلامنا العربي يتداولها باعتبارها أمراً مقضياً بالنسبة للرئيس الأمريكي، ويوهم الجمهور بأن عزله مسألة مفروغ منها، في حين ان الأمر بالأساس يتمحور أساساً حول صراع سياسي باستخدام أدوات ديمقراطية نهايته واضحة احصائياً باستبعاد سيناريو العزل، مع بقاء حسابات الربح والخسارة السياسية رهن نتائج التحقيقات وتوظيف الطرفين لها.