في الأدبيات السياسية ارتبط اسم المفكر الإيطالي "نيكولا ميكا فيلي" بالسياسة اللاأخلاقية، كونه يقول إن هدف السياسة ليس الأخلاق وإنما النجاح والفعالية. وفي نظرة سريعة على الحياة السياسية في دول العالم نلاحظ أن مقولته الشهيرة "الغاية تبرر الوسيلة" كتصور لا أخلاقي تحكم العلاقات البشرية وتهيمن على السياسة العالمية.

أثيرت قضية العلاقة بين السياسة والأخلاق في الفكر الإنساني، كما في تجارب الدول والمجتمعات من زاويتين لا علاقة لإحداهما بالأخرى. الزاوية الأولى هي "أخلاقية السياسة" والى أي مدى يلتزم الساسة بالقواعد الأخلاقية في إدارة الخلافات والصراعات، وقد شغل هذا السؤال الفكر الإنساني عموما منذ البدايات الأولى لتاريخ الفلسفة. كما احتل حيزا مهما في الفكر السياسي الحديث منذ اصدر المفكر الإيطالي "ميكا فيلي" كتابه المشهور "الأمير" في القرن السادس عشر، وقدم فيه الذرائع لتبرير الاستيلاء على السلطة بالقوة، وممارستها بأية طريقة تحقق الغاية منها على أساس ان هذه الغاية تبرر الوسيلة، بغض النظر عن اخلاقيتها ومشروعيتها، وما زال ذلك السؤال عن أخلاقية السياسة مثار جدل حتى وقتنا الحاضر.

أما الزاوية الثانية فهي تتعلق بإضفاء "الطابع الأخلاقي" على السياسة والسعي الى فرضه او ترويجه باستخدام السلطة وادواتها. وكان استخدام الدين في السياسة - وما زال - هوالشكل الأكثر انتشارا في هذا الإطار. فالأخلاق والقيم الدينية هي المدخل الذي يلج منه مستغلو الدين لتحقيق اغراضهم السياسية، لما تحظى به هذه الأخلاق والقيم من قبول عام في اغلب المجتمعات البشرية. لذلك يتم استخدامها للتأثير على الناس بغض النظر عن مدى التزام من يستغلونها ما داموا قادرين على إعطاء انطباع بأنهم حرا سها وحماتها.

بعض النقاد ممن يطلق عليهم "الواقعيين السياسيين" يجادلون بأن الأخلاق ليس لها مكان في السياسة، وإذا كان على السياسيين أن يكونوا فعالين في العالم الحقيقي، فلن يكونوا ملزمين بالقواعد الأخلاقية، لأن عليهم السعي وراء المصلحة الوطنية لا غير. ومع ذلك يشير" مايكل ولزر" المفكر والمؤرخ الأمريكي إلى أنه إذا طلب من الواقعيين تبرير ادعاءاتهم فإنهم سوف ينادون دائما بالمبادئ الأخلاقية الخاصة بهم لإظهار أن الأخلاق ضارة أو غير ذات أهمية.

لذلك يعتقد أغلب المتخصصين في علم السياسة أن اجتماع الأخلاق بالسياسة قد يكون فقط على مستوى الصياغة اللغوية، بينما في الواقع يرفض بعضهما البعض، بل يصلان لدرجة التنافر والتضاد. وإن كان هناك تأثير فهو للسياسة على أخلاق ممارسيها، وهذا تصور تصدقه ممارسات الكثير من السياسيين الذين كانوا يجعلون من الأخلاق مرتكزا لتعاملاتهم أو كانوا يتظاهرون بذلك، فلما فتحت لهم السياسة أبوابها تكالبوا عليها فكانت تلك بداية لسياسة لا مكان فيها للأخلاق والقيم، حيث يصبح كل شيء مبررا ومستباحا. قد يتحجج السياسي فيها بتحقيق مصلحة أو دفع مضرة، لكنها فقط تبريرات تقوم عليها الممارسة السياسية وخصوصا في دول العالم الثالث ليسهل استقطاب كل من يتصور أن الأخلاق والسياسة قد يجتمعان لمصلحة واحدة.

هناك نوع آخر من الانتقادات يأتي من أولئك الذين يزعمون أنه لا ينبغي لنا أن نولي الكثير من الاهتمام للسياسيين والسياسات، بل يجب أن ننظر عن كثب إلى الهياكل الأوسع للمجتمع حيث تكمن أخطر المشاكل الأخلاقية. في حين يرى المدافعون عن الأخلاقيات السياسية أنه لا ينبغي تجاهل الظلم البنيوي، وأن التركيز المفرط على الهياكل يهمل العناصر البشرية المسؤولة عن تغييرها.

ونظرا لقوة تأثير كلمة الأخلاق على الناس فقد توسع استخدامها من جانب حكام وحكومات خارج إطار الدين والأيديولوجيات الكلية، سعيا للارتقاء بالمجتمع او رغبة في السيطرة عليه. وما زال اللجوء الى التوظيف السياسي للأخلاق، بحسن نية او بسوئها، مستمرا في كثير من بلدان العالم، حتى بعد نحو ثلاثة قرون على تبلور صيغة الدولة الحديثة التي تقوم على اعتبار هذه الأخلاق جزءا من المجال الخاص تبعدها عن المجال العام. وقد لخص "ميكا فيلي" نفسه هذه الحقيقة حين قال : "إن جميع الأنبياء المزودين بالسلاح ينجحون، والأنبياء العزل يخفقون". وهو بالطبع لا يشير الى الأنبياء الحقيقيين وإنما يشير الى السياسيين المعطلين ضمائرهم، والمسلحين بسلاح الحيلة والمكر والخديعة.

يكشف لنا تاريخ السياسة عن علاقة ملتبسة ما بين الأخلاق والسياسة، فالأخلاقي يرى أن السياسي ينبغي أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة البريئة من المصالح الشخصية ، ويرفض الأخلاقي بشدة أن تكون الأخلاق مادة مطاطة تتمدد وتنكمش حسب الطلب.