عندما يقتنع الواحد منا بأن صفحته الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي(الفيس بوك) ليست أكثر من جدار إلكتروني عابر، كأي جدار في الشارع الذي يمر المواطن بجواره يومياً، وقتها سيخفِّف من حدة تذمره أو انتقاداته، ويخفّض من سقف مدائحه أو مآخذه التي يُشم منها رائحة الاعتقاد بأن صاحب المنشور يتصور بأن آلاف المشتركين بانتظار درره الفيسبوكية، فينكفئ حينها ويقلص من غزارة توقعاته، ومن ثم يتواضع في اطروحاته، أو يبحث عما يفيد الأخوة المحتاجين على الأرض بشيء ملموس، أكثر من حاجتهم إلى عويله المملوء حنقاً أو تنظيراً أو اتهاماً في الفضاء المفترض.

وقد يكون في دخيلة أحدنا تطويع الصفحة لكي تُرضي مزاجه وتساير رغباته، من خلال جعلها منبراً أيديولوجياً لينهال على الناس بفرائض تصوراته من خلال تلك المنصة الاجتماعية، أو جعلها ميداناً لرشق الأصدقاء بالبيانات والتصاريح السياسية، أو التعامل معها كسوق عكازٍ فضائي لإلقاء القصائد من فوق مسرحها، أو اعتبارها صالةً لكي يعرض واحدنا عبرها لقطاته اليومية أو لوحاته الفنية، وبالتالي تحوير وظيفة الفيس لتناسب الأهداف والغايات المرجوة، مع أن عجلة الحياة المسرعة تدفعنا للاعتراف بأن كل تلك المحاولات ربما ستبقى رهينة المحاولات نفسها، بما أن الوظيفة الأساسية للصفحة هي للتواصل باعتبارها الفضاء البديل للعلاقات الاجتماعية الواقعية، ولكنه تواصل مصاحب ببعض الجماليات التي قد يفتقر إليها التعاطي الأرضي، تواصلٌ مزيَّنٌ ببعض الجوانب الفنية والتقنية والأدبية المناسبة للوسيلة، هي باختصار محاكاة الحياة الاجتماعية تكنولوجياً ولكن مع الكثير من الاكسسوارات.

ونرى بأن على المرء أن يضع في حسبانه بأن العابر من أمام جداره إذا ما وضعَ من منطق رد الجميل أو من باب المجاملة أو عن طريق الخطأ، أو سهواً أو إنطراباً وضع إصبعه على زر الإعجاب، فلا يعني ذلك بأنكما غدوتما قيد الإقامة في مركب المتناغمين إلى يوم الدين، إنما الموضوع برمته هو أن منشورك ربما كان جديراً بما يُشغل هوى العابر ساعة مرور المنشور من أمام أنظاره، لذا لا ينبغي التأسيس لهواجس الطوسنة أو بناء صروح الصداقة الحتمية بناءً على تحركات الأصابع.

ولا ننكر بأن بعض المنبهرين بالكثافة السكانية وبالفائض في عدد أصدقائهم المفترضين، قد يدفعهم ذلك الأمر للتباهي بطوابير الأصدقاء الوهميين، وهو ما يذكرنا بقولٍ ينسب إلى ماكسويل "لا تفتخر بأن لك أصدقاء بعدد شعر رأسك فغالباً عند حاجتك إليهم ستكتشف بأنك أصلع" وهو بالضبط ما سيكتشفه كل مخدوع بالحشود من أصدقاء صفحته إن أجرى تجارب واقعية بسيطة، منها على سبيل الذكر وليس الحصر ففي 30/12/2017 اقيم حفل خيري لدعم منكوبي زلزال مدينة كرمنشاه الإيرانية، والحفل أقيم في مدينة اسطنبول التركية، ولكن بالرغم من أن الحفل حضره أكثر من 10 فنانين، ومعروف أن كل واحد منهم لا يقل عدد أصدقائه في الفيس بوك عن 5000 شخص، إلاّ أن كل واحد منهم لم يستطع أن يجلب معه نفرين فحسب من بين الآلاف المحتشدة طوابير طوابير على صفحاتهم الشخصية!

وبما أننا حالياً في فترة الذكرى الثانية لغزوة عفرين التي سمتها تركيا "غصن الزيتون"، وحيال الانتهاكات التي تقوم بها بعض الجهات المسلحة المسلطة على رقاب الكرد في عفرين بذريعة محاربة حزب العمال الكردستاني منذ عامين الى تاريخ كتابة المقالة، فرأينا منذ الأيام الأولى للغزوة كيف أن مئات الأشخاص راحوا يهدرون طاقاتهم الكتابية في وسائل التواصل الاجتماعي، بالرغم من أن تأثير ذلك على الدولة التركية الراعية للأطراف العسكرية في عفرين يكاد يكون عدماً، باعتبار أن المكتوبات بمجملها كانت باللغة العربية التي ليس لها أي تأثير على الشارع التركي، وبما أن تركيا حسب نشطاء أتراك غدت مثلها مثل الدول الأمنية في المنطقة، فكان من الصعب على من يجيدون التركية الكتابة بحرية عما يجري في عفرين من انتهاكات، لذا قلنا مراراً للنشطاء والصحفيين الكرد المقيمين في الدول الغربية أن عليهم كتابة التقارير لصحف الدول الغربية التي يقيمون فيها، أو يعملوا جاهدين للكتابة في الصحف العالمية المشهورة، فهي وحدها قادرة على أن تقوم بدور ضاغط على الحكومة التركية لتغيّر من سياسة تعاملها مع أهالي المنطقة، إلا أن الكثير من الصحفيين والنشطاء بدلاً من إيصال أصواتهم الى المنابر الإعلامية العالمية راحوا يكتفون بالشتم والسب واللعن في وسائل التواصل الاجتماعي مثلهم مثل أي جاهل لا يجيد غير استخدام لغة الشارع، علماً أن الدولة التركية آخر همها ما ينشر في الفيس بوك بالعربي أو الكردي، بل وإن كان هنالك ضغط من الخارج فلن يتم إلا من خلال منصات الإعلام العالمي، والدليل على ذلك فالمسؤولين الأتراك أنفسهم حيال سياستهم في سوريا ينشرون مقالات الرأي في الصحف الغربية، وحيث أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه يترك كل الاعلام التركي المرئي والمسموع والمقروء وينشر مقالاته في واشنطن بوست الأمريكية، ومن شبه المؤكد أن تقرير واحد أو مقالة واحدة عن عموم سورية أو أي منطقة أخرى مثل عفرين في صحيفة عالمية تضاهي عشرات الآلاف من المنشورات الفيسبوكية، والدليل على ما نقول فها هو وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو ينشر مقالة في صحيفة "الفاينانشيال تايمز" البريطانية، تحت عنوان: "تقاعس الاتحاد الأوروبي عن ملف اللاجئين السوريين وصمة عار في جبين الإنسانية" وذلك لكي يقنع المجتمع الغربي برؤيته السياسية وتوجهات حكومته، بينما صحفيونا وسياسيونا الماكثون في الدول الغربية يكتفون بنشر بوستاتهم بين نفس الفئات التي تدرك مثلهم تماماً كل ما تتحدث عنه مكتوباتهم، أما ماهي الغاية والضرورة من إعادة تدوير نفس الأخبار والقصص بين نفس الأشخاص ما كنت أعرف؟.

ومع كل ذلك ثمة من لا يزال يدعو ويطالب ويناشد ويستنكر ويدين من خلال حائطه من غير أن يكون حتى مجرد مختار في أصغر قرية نائية في المعمورة، ناسياً بأن المرء لا يؤخذ بكلامه محمل الجد إطلاقاً إلا إذا كان نجماً مشهوراً أو في موقع المسؤولية، سواء أكان مسؤول سياسي أو أمني أو عسكري أو اقتصادي، أما أن يتصور كل فرد من أفراد المجتمع بأن صفحته الشخصية هي أشبه بواشنطن بوست، فهنا يكون الوهم المرضي قد بالغ في تأثيره على ذهنية وعقل وتصورات صاحب الصفحة وكل من هم على شاكلته.