رغم أن أزمة تفشي فيروس "كورونا" لا تزال في مراحل التطور ويصعب التنبؤ بمساراتها المحتملة خلال المستقبل المنظور، فإن هناك دروس عدة يمكن استخلاصها من خلال تحليل مبدئي لمجريات الأحداث حتى الآن، وأهمها على الاطلاق ضرورة الاهتمام بعلم إدارة الأزمات في جميع الدول، كبيرها وصغيرها، حيث اثبتت جائحة "كورونا" أن المسألة لا تتعلق بمستويات التقدم والتطور بقدر ما تخضع لحسابات ليست معروفة حتى الآن، إذ ثبت ضعف الأنظمة الصحية وغياب آليات إدارة الأزمات في دول غربية عدة تصنف ضمن الدول المتقدمة، وتطور مستوى النظام الصحي وفاعلية إدارة الأزمات في دول أخرى مثل كوريا الجنوبية وألمانيا وهونج كونج واليابان وغيرها. وفي كثير من الدول، لا يزال مفهوم إدارة الأزمات كعلم غائباً، حيث تحل محله اجتماعات بيروقراطية يلتقي فيها مجموعات من الأفراد للحديث والنقاش من دون إطار عمل علمي مدروس، أو أن تكون هذه المجموعات على دراية كافية بمفهوم إدارة الأزمة من الناحية العلمية البحتة، ومن المضحكات المبكيات أن الأمر يتطور في دول أخرى لتصبح فكرة إدارة الأزمات مجرد "مخازن" لاستضافة الموظفين المغضوب عليهم وعديمي الكفاءة وآخرين ممن يراد وضعهم في درجات ومناصب وظيفية لا دور لها في ظل غياب ثقافة العمل الجماعي وصعوبة تكوين فرق العمل الكفؤة ناهيك عن امكانية انعقاد اجتماعات فاعلة لها ومن ثم أداء عمل مثمر!.

الغريب أن إدارة الأزمات والكوارث كعلم ليست جديدة ولا طارئة، فالمفهوم ذاته يعود إلى بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، وتحديداً منذ أزمة الصواريخ الكوبية التي نشبت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، حيث نجح الجانبان في تفادي كارثة نشوب حرب نووية ومن ثم تم تدشين "عصر إدارة الأزمات" كما أطلق عليه وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ماكنمارا.

البعض لا يزال يشكك في أن المسألة تتعلق بعلم له قواعد وأسس ومعايير، ويرى أنه "فن" أو مجموعات من القواعد والمبادىء والمعايير الحاكمة، ولكن الباحثين يدركون أننا بصدد علم باتت له قواعده ومبادئه المستقرة شأنه شأن العلوم الادارية الأخرى وينعكس ذلك في آلاف الكتب والمؤلفات العلمية والبحثية، وفي جميع الأحوال فإننا بصدد مسألة تتعلق بالأمن القومي للدول وترتبط به ارتباطاً وثيقاً، فهو علم تجنب المخاطر أو الحد منها وتحجيم آثار الأزمات على أقل التقديرات، ويكتسب أهمية متعاظمة في ظل تعقد العلاقات الدولية وتشابك القضايا والملفات وتأثيرات الأزمات والكوارث وتعدد مصادرها الفعلية والمحتملة، وتنوعها بين الأزمات والكوارث الناشئة عن مصادر تتعلق بسلوك البشر في مختلف المجالات (الصحة والاقتصاد والحروب ... الخ) وأخرى تتعلق بالطبيعة ومالا يمكن التحكم فيه، مثل الزلازل والبراكين والسيول والاوبئة وغير ذلك.

المؤكد أن علم إدارة الأزمات لا ينجح في بيئات تطغى عليها "الأنا" والذاتية المفرطة وتتراجع فيها فرص العمل الجماعي أمام العمل الفردي، وبالتالي فالمسألة تتعلق بثقافة العمل المشترك بالأساس وهذه تبقى بدورها رهن القدرة على غرس مفاهيم العمل المؤسسي الحقيقي ووجود أنظمة عمل تشجع التنافس والابداع والابتكار والتميز والشفافية وتحد من الأمراض الوظيفية التقليدية المتجذرة في البيروقراطيات الحكومية المتخلفة.

القاعدة الحاكمة في إدارة الأزمات هي أن كل أزمة مشكلة وليست كل مشكلة أزمة، بمعنى أن هناك بعض المشاكل الصغيرة التي قد تتفاقم وتمتد آثارها لتطال الدول والشعوب في حال عدم معالجتها فورياً أو التباطؤ في ذلك، بينما تبدو كل أزمة مشكلة معقدة متعددة الأبعاد، ويبقى أن تفشي فيروس "كورونا" قد اثبت أن الكثير من دول العالم تعاني أزمة غياب الاهتمام بإدارة الأزمات.

في إدارة الأزمات هناك عناصر في غاية الأهمية في مقدمتها كفاءة القيادة، حيث تتوقف معالجة الأزمة في كثيرمن الأحيان على مدى وضوح الرؤية ووعي القيادة وطبيعة علاقتها بالأطراف المعنية بالأزمة، وفي أزمة "كورونا" على سبيل المثال يتجلى عنصر ثقة الشعب بالقيادة كمحدد رئيسي في نجاح خطط التصدي للخطر، فالشعوب تلتف حول قادتها الموثوق بهم في أوقات الأزمات، حيث يتحمل القادة في مثل هذه الظروف عبء قيادة فرق العمل واتخاذ القرار الملائم، وأيضاً مسؤولية بث الثقة والطمأنينة ورفع الروح المعنوية للشعوب واقناعهم باتباع الاجراءات والقرارات التنظيمية التي تعلنها السلطات الحكومية وبناء مايعرف بالاجماع الطوعي حول موضوع الأزمة.
وإذا كانت الشدائد تصنع الرجال كما يقال، فإن الأزمات تظهر كذلك معادن القادة وتعزز الثقة بينهم وبين شعوبهم، شريطة أن تكون هذه الثقة قائمة ومتراكمة كما هو حالنا في دولة الامارات، حيث برز منذ الساعات الأولى التأثير الايجابي القوي لعامل الثقة المتراكمة الذي تتمع به القيادة الرشيدة والمخزون الهائل والرصيد الكبير من الثقة الشعبية الجارفة، الذي يتمتع به صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي لدى شعب الامارات، الذي تلقف بوعي وثقة شديدة رسائل سموه منذ بداية الأزمة، فكانت توجيهاته مصدر ومبعث الثقة الأول الذي نشر الهدوء والأمان في ربوع الامارات، و أثمرت رسائل في كلمات قليلة مثل "لا تشلون هم" نتائج عظيمة في أثرها النفسي والاجتماعي لدى المواطنين والمقيمين، ونشرت الاحساس بالأمان والسكينة بين الجميع.
الامارات وكأحد تجليات الرؤية الواعية للقيادة الرشيدة، انتبهت لأهمية علم إدارة الأزمات منذ سنوات طويلة مضت حيث أنشأت الهيئة الوطنية لإدارة الطوارىء والأزمات والكوارث، وهي هيئة اتحادية فاعلة برز دورها الحيوي في هذه الأزمة وغيرها، وتعمل ضمن فريق عمل حكومي وتنسق بشكل فاعل مع المجتمع العلمي الاماراتي ومجلس علماء الامارات وتدير مركز العمليات الوطني وتنفذ خطط الاستجابة الوطنية اعتماداً على قاعدة بيانات دقيقة لموارد وقدرات الدولة.