ثلاثة مواضيع شغلت الفيلسوف الألماني الكبير يورغن هابرماس منذ الخمسينات من القرن الماضي، وحتى هذه الساعة، ألا وهي: الفلسفة والدين وصورة المثقف في المجتمع. وعن هذه المواضيع كتب العديد من الدراسات التي أثارت جدلا واسعا لا في بلاده فحسب، بل في الدوائر والأوساط الفلسفية والفكرية في جميع أنحاء العالم.

ويعتقد هابرماس أن حركة "أنصار هيغل الشبان"، أي نقاد فلسفته، وأتباعه في القرن التاسع عشر من أمثال فيورباخ، وماركس، وكيركوغارد، تتضمن مصادر هامة للغاية لم يتم استغلالها بعد ، في حين أنها هامة جدا لكي نحدّدَ المفهوم الصحيح للفلسفة. وكان هيغل قد اكتشف بحسب نظره ما يمكن أن نسميه ب"عالم الفكر الموضوعي" الذي لا يتوقف عند الوعي، بل يتجسّدُ في مظاهر من الواقع مثل الثقافة والمجتمع. وقد تعلم أتباع هيغل منه اخراج وظائف العقل من حدود الموضوع الاستعلائي الذي لا يمكن اثباته من خلال التجربة لكي ينشغل بالقضايا المتصلة بالواقع وبالمجتمع في جميع ظروفه وتجلياته، وأيضا بالتاريخ وبالثقافة. في الآن نفسه، تعلم اتباع هيغل من كانط الذي كان سابقا له، الأخذ بعين الاعتبار محدودية الفكر، لكنهم ثاروا ضد تلك الفترة التي تقول بإنه لا يمكن الاعتماد على العقل لفهم التاريخ. وكانت تلك الثورة قاسما مشتركا بين كل من مارس، وكيركوغراد، الأمريكي شارل ساندرس بايرس. لذا يمكن القول أن هؤلاء هم الذين أسسوا للنظرية النقدية للمجتمع، وللفلسفة الوجودية،

ويرى هابرماس أن الفلسفة لا يمكن أن تكون مُعينا للعلوم، ورافدا لها، بل هي النمط الفكري العلمي الذي حدده فلاسفة الأنوار، والذي يقول بإن عمل الفلسفة هو تفسير ما تعنيه بالنسبة لنا المعارف العلمية المنشغلة بقضايا العالم، وبقضايا الانسان على الأرض.

وكان هابرماس قد انشغل بموضوع الدين منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، أي بعد انهيار جدار برلين، وتفتت المنظومة الاشتراكية بقيادة ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي، وذلك من خلال مكانة المعتقد الديني في المجتمع. وهو يقول بإنه يتوجب علينا أن نبحث عن الوسيلة أو الوسائل التي تُخَوّلُ لنا ترجمة مضامين الدلالات للتقاليد الدينية إذا ما كانت هذه الدلالات تسمح لنا بتوسيع أ فق مفهوم خطابنا العام، وأحاسيسنا ومشاعرنا الغامضة والمحيرة . وهناك مفاهيم مثقلة بالمعاني مثل "قوة الإرادة"، و"السيادة"، و"القانون"، و"الفردانية"، و"الوعي"، والأزمة"، و"التاريخانية"، و"التحرر"، باتت مستعملة ومُتَداولة حتى في لغتنا اليومية. لكن بحسب مقاييس تاريخ المفاهيم، بدت قرون من العمل الفلسفي الدائب والثابت ضرورية لاستيراد غرائز لها طابع ديني في الفضاء العالمي للأسس العقلانية، والذي بإمكاننا أن نلجه بسهولة. وإذا ما نحن فكرنا في فلاسفة مثل ليفيناس، أو جاك دريدا فإننا نلاحظ أن التأثير المتبادل والذي تهيمن عليه العلاقة بين الفلسفة والدين لا يزال متواصلا، ولم ينقطع تماما. غير أن العلاقة بين الدين والفلسفة لم تخلخل الالحاد المنهجي الذي مارسه الفلاسفة الغربيون منذ هوبز وسبينوزا. والأخلاق المؤسسة على العقل لم تكن بحاجة إلى سَنَد ديني. لذا فإن المشكلة تقوم على اختفاء التضامن بين الفلسفة والدين. ومن المشروع أن تقدم الأخلاق القائمة على العقل مبادئها، مُسَلّطَة الضوء على الفرد. وفورا، يكون انبثاق فعل تضامني مُحَمّلا على سبيل المثال بحركة اجتماعية، خاضعا لتوافق وتبشير بعيدي الاحتمال لقرارات منبثقة من وعي الأفراد المُشَتّتين والمُتَفَرّقين. وبالأحرى يمكن القول أن ذلك يحدث بمقدار دخول جمل من عين الابرة. لذا يعتقد هابرماس أن التوجه الحالي لانتفاء التضامن الذي يرافق مباشرة احتلال عالمنا الراهن الذي تتحكم فيه ضروريات لها طابع عقلاني هو متطلبات السوق الذي ينشر ثقافة السلعة حتى في العلاقات الاجتماعية مفضلا سلوكا ينسجم مع عقلانية نفعية وأنانية. وكل هذا يؤثر بحسب هابرماس بشكل سلبي على القوة التجريدية للمبادئ الكونية، ويُبْطلُ قدرتنا على مواجهة ومقاومة الأوضاع الصعبة وغير المحتملة. وعكس هذا التوجه، تجد المجموعات الدينية في المُعْتَقد أسسا للتضامن والوحدة والتماسك. لكن يمكن أن تنغلق المعتقدات الدينية على نفسها، وتتحول إلى قوة متفجرة تجاه المعتقدات الأخرى. وهنا يمكن للفلسفة بحسب هابرماس أن تلعب دورا يتمثل في التذكير بأنها كانت على مدى طويل مهتمة بالمصادر وبالتأثيرات الدينية، وأنها سَعَتْ جاهدة لعقْلَنَة المعتقدات الدينية ، وافراغها من شحنة التزمت والتحجر لتكون منفتحة على المعتقدات الأخرى. ويرى هابرماس أنه طالما ظل الدين هو الشكل الحالي للفكر، فإنه لن يكون سوى خنجر في جسد الحداثة. لذا على الحداثة أن تحافظ على قوتها، وعلى قدراتها على ابتكار ما يساعدها على البقاء، وعلى مواجهة المصاعب والعراقيل التي باتت تهددها كما كان الحال في الأزمنة التي شهدت هيمنة المعتقدات الدينية المتحجرة على المجتمعات.

وكان هابرماس قد اقتدى منذ بداية مسيرته بالمثقفين الفرنسيين الذي دأبوا منذ فلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر على ترك البروج العاجية، والتهويمات التجريدية ليكونا في قلب الصراعات الاجتماعية والسياسية وغيرها. وهو يعتبر أن أفضل مثال للمثقف الألماني هو الشاعر والكاتب هاينريش هاينه () الذي اضطر للهروب من بلاده ليمضي عقودا طويلة في باريس مُدافعا عن قيم الحرية. كما يعتقد هابرماس أن على المثقف أن يكون تكون للمثقف موهبة اكتشاف النواقص داخل مجتمعه، وأن تكون له القدرة على ابتكار وإيجاد الحلول للقضايا القائمة، وأن يتحلى بالشجاعة، وقوة التحدي والمعارضة والتمرد. وقد يكون الفرنسي اميل زولا هو أول من بلور صورة واضحة للمثقف الحديث وذلك من خلال دفاعه عن الضابط اليهودي دريفوس الذي اتهم بالخيانة الوطنية في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر. وقبل ذلك، وتحديدا في الثلاثينات من القرن المذكور آنفا، أصبحت الصحافة المكتوبة تحظى برواج كبير في فرنسا. وبذلك أصبح المثقف يمثل صدى الشارع في دولة كانت في طور التأسيس. وبعد الحرب الكونية الثانية، لعب سارتر دور مثقف تلك الفترة من القرن التاسع عشر. ويرى هابرماس أن هذا المثقف بات مهددا بالاختفاء خصوصا بعد أن اقتحمت وسائل الاتصال الحديثة الحياة اليومية للناس في جميع أنحاء العالم لتحدث تحولات لم يسبق لها مثيل. ويتساءل هابرماس بمرارة: كم نحتاج من وقت لكي نضع حدا لهيمنة الأمية الجديدة التي فرضتها علينا الأنترنت؟