تعرض العالم لصدمة في الربع الأول من عام 2020 بسبب وباء عالمي سيكون له أبعاد تاريخية، فقد انتشر فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) بشكل سريع إلى جميع أنحاء العالم، مما أدى إلى حدوث اضطراب كبير في النشاط الاقتصادي.
فخلال أشهر قليلة، أصبح العالم يواجه مجموعة غير مسبوقة من التحديات الاقتصادية والإجتماعية، تحديات ترتب عليها إغلاق أغلب أنشطة الإنتاج البشري ووسائل النقل مما تبعه انخفاض ملحوظ في انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في العديد من دول العالم. وتشير دراسات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى انخفاض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة تتراوح بين 0.3% و1.2% خلال العام الجاري، فيما شهدت مدن أوروبا وآسيا انخفاضاً ملحوظاً في نسبة غاز ثاني أكسيد النيتروجين (NO2) بالهواء.وصاحب ذلك تأثير فوري وملموس على البيئة، حيث انتشرت العديد من الصور على وسائل التواصل الاجتماعي تشير إلى تراجع معدلات التلوث.
على مدار قرون تسببت الأنشطة الصناعية والعادات الإنسانية في حدوث تغيرات جذرية على البيئة والمناخ، فقد تسببت أنشطتنا في ظاهرة الاحتباس الحراري وتدمير الطبيعة لصالح الأنشطة الزراعية والتعدين والإسكان، وحدوث المزيد من التدخل البشري في الكائنات بالحياة البرية وإبعادها عن مواطنها الطبيعية، وهو ما جلب خطراً كبيراً على البشرية خاصة وأنه ما يقرب من 75% من الأمراض المعدية الناشئة تأتي من الحياة البرية.
كلما يمر الوقت، فإننا نفقد تدريجياً فرصاً ثمينة لإصلاح هذه التداعيات. واليوم، تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن العالم أمامه أقل من 10 سنوات لمنع ارتفاع درجات الحرارة بمقدار 1.5 درجة مئوية مقارنةً بمستويات ما قبل الثورة الصناعية.
ودفعت طبيعة هذه الأرقام التي تتغير على المدى الطويل، الكثيرين للنظر إلى التغير المناخي باعتباره خطراً لا تزال آثاره بعيدة، وهذه مع الأسف وجهة نظر مضللة. ففي الواقع، تؤثر عواقب التغير المناخي اليوم على مئات الملايين حول العالم، لكن من الصعب مقارنة هذه التأثيرات الفادحة والتي سيتوقف عليها مصيرنا في المستقبل مع التأثير قصير المدى لوباء كوفيد-19.
ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فإن تلوث الهواء وحده يقتل سبعة ملايين شخص كل عام. وبالنظر إلى هذا الرقم في ظل حالة الذعر العالمية التي يشهدها العالم اليوم، فقد أودى وباء كوفيد-19 منذ بدايته وحتى منتصف مايو 2020 بحياة ما يقرب من 300 ألف شخص. ومع ذلك، وعلى النقيض من فيروس كوفيد-19، فإن تلوث الهواء لا يلفت الانتباه بنفس المستوى لأنه لا يسبب وفيات فورية، ولا تقوم وسائل الإعلام بتناول أو نشر تقارير حول الأمراض والوفيات الناجمة عنه بشكل يومي.
وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي شهدناها خلال الأسابيع الماضية نتيجة انتشار هذا الوباء، إلا أنه قد ترك لنا جوانب إيجابية، حيث لقّن الإنسانية بالفعل دروساً مهمة يمكنها مساعدتنا في مكافحة تغير المناخ.
ويتمثل الدرس الأول في مدى ارتباطنا كبشر، وأنه إذا سقط أحدنا، فسوف نسقط جميعاً. إن البشر ليسوا محصنين سواء ضد فيروس كورونا أو التغير المناخي، فنحن جميعاً معرضون لتبعات هذه المخاطر. إن هذه التحديات تتطلب جهوداً جماعية عالمية، وتغييرات ممنهجة، ليس فقط من قبل الحكومات أو الشركات، ولكن أيضاً من قبل الأفراد. وعلى غرار حالات الإصابة بفيروس كوفيد-19، فإن كل طن من الغازات الدفيئة يسهم بصورة متساوية في تأجيج مشكلة التغير المناخي. وحتى لو قامت دولة أو قارة واحدة بسن قوانين للحد من هذا التهديد، فلن تكون هناك فائدة تذكر ما لم يفعل الجميع الشيء نفسه.
أما الدرس الثاني، فهو أن الوقاية خير من العلاج، حيث ذكر تقرير صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في عام 2012، أن تنفيذ التدابير الكافية للتخفيف من آثار التغير المناخي والحد من ارتفاع درجات الحرارة بمقدار درجتين لن يؤثر إلا بشكل طفيف على النمو الاقتصادي في المستقبل مقارنةً بعدم اتخاذ أي إجراءات. وتعد هذه التدابير بمثابة تكلفة وقائية زهيدة للغاية، لا سيما عند النظر إلى العلاج المحتمل الذي نحتاجه لمجابهة تداعيات التغير المناخي، فقد لا نستطيع تحمل تكلفة هذا العلاج بعد فوات الأوان. لذا، يعد اتخاذ تدابير وقائية في وقت مبكر أمراً بالغ الأهمية، وهو ما تعلمناه من أزمة كوفيد-19.
وبالنسبة للدرس الثالث، فهو إظهار قوة التركيز العالمي. فإذا كان بإمكان الحكومات اتخاذ إجراءات مشددة لإغلاق أماكن العمل وتقييد الحركة، فمن المؤكد أنه يمكنها اتخاذ خطوات مماثلة لتغيير أساليب إنتاج الطاقة واستهلاكها. ولا ينبغي أن تكون هذه التدابير مفاجئة أو شديدة، ولكن يمكن اتخاذها من خلال تنسيق وتضافر الجهود العالمية. لقد أظهرت لنا أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد مستوى من التنسيق العالمي لم نشهده من قبل سواء على صعيد الحكومات أو المؤسسات أو الشبكات الاجتماعية. وقد أصبح كل شيء ممكناً في ظل هذا التنسيق العالمي. وهنا تأتي أهمية الدرس الرابع وهو الثقة بالخبراء.
وهناك درس آخر يتمثل في أننا أصبحنا نفهم مدى أهمية تغيير السلوك لمواجهة التحديات العالمية، وهو ما ظهر جلياً من خلال عدة إجراءات مثل العمل من المنزل، وركوب الدراجات، والتباعد الاجتماعي، والتوقف عن المصافحة. فنحن الآن نفهم عواقب أفعالنا بشكل أفضل وهو ما يشكل فرصةً هائلةً لتغيير سلوكنا إلى سلوك صديق للبيئة.
أما الدرس الأخير والأهم فهو أننا نمتلك الآن دليلاً إرشادياً لكل الأهداف التي يمكن تحقيقها، فقد أصبحنا جميعاً نستوعب قوة التكنولوجيا والاتصال بالإنترنت في قطاعات الاتصالات والتعليم والتسوق والقطاعات الأخرى، وهو ما يفتح الباب أمام العديد من الفرص المستقبلية لمواجهة تغير المناخ.
إن مكافحة تغير المناخ أمر لا يتطلب حدوث صدمة عالمية تقتل مئات الآلاف من الأشخاص وتضع الملايين منهم تحت ضغوط مالية ونفسية. وينبغي أن تشكل جهود التعاون العالمية بهدف الاستجابة لأزمة كوفيد-19، مرجعاً يمكن الاستفادة منه لمعرفة كيفية التصدي لتغير المناخ الذي سيشكل مستقبلنا جميعاً في نهاية المطاف. إن وباء كوفيد-19 سينتهي حتماً، لكننا يجب أن ننظر إليه باعتباره تحذيراً للبشرية بشأن خطورة تغير المناخ، والحاجة إلى المزيد من العمل الجماعي للتصدي لهذه المشكلة. لذا، لا ينبغي أن نجعل أزمة كوفيد-19 تمر دون استيعاب جميع الدروس المستفادة منها.