في الحروب، وفي أوقات الأزمات الكبيرة، والجوائح المرعبة والفتاكة مثلما هو الحال راهنا مع كورونا، يطل على البشر في جميع أنحاء العالم شبح المجاعات التي قد تحصد أرواح أعداد غفيرة من الناس خصوصا في البلدان الفقيرة والمحدودة الموارد. ولعل أفضل مرجع في هذا المجال، هو كتاب عالم الاجتماع البرازيل خوزيه دوكاسترو (1908-1973):"جغرافية الجوع" الذي ترجم إلى عشرات اللغات، وكان المحرك الأساسي لأعمال العديد من المنظمات الانسانية، ولأجيال من علماء الاجتماع والاقتصاد...

وينتمي خوزيه دوكاسترو إلى منطقة "نورداسات" التي هي من أشد المناطق فقرا وفاقة في البرازيل. وفي سن الواحدة والعشرين، تمكن من أن يصبح طبيبا. وبسبب اهتماماته بجوانب مختلفة، ومتعددة، وامتلاكه لمواهب عالية، ولذكاء حاد، درّسَ في الثلاثينات من القرن الماضي، الجغرافيا، والأنثروبولوجيا، والفيزيولوجيا. ومبكرا اهتم بالتغذية إذ كان يُشَاهَدُ خلال طفولته أناسا كثيرين، أطفالا ونساء وشيوخا يعانون من الجوع. وشيئا فشيئا لفتت بحوثه وأعماله بشأن هذا المجال، أي الجوع، أنظار الاقتصاديين حتى أنه أصبح يتمتع بشهرة عالمية واسعة.

وفي بلاده، قام بتهيئة القسم المركزي للتغذية. وخلال الحرب الكونية الثانية، هددت المجاعات الكثير من البلدان فدعته بعض الحكومات مثل حكومة الأرجنتين، وحكومة جمهورية الدومينيك، وحكومة المكسيك لمعالجة بعض المسائل المتصلة بالتغذية. كما دعته أيضا فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية لنفس الغرض. وعندما أصدر خوزيه دوكساترو عام 1946، كتابه "جغرافية الجوع"، ازدادت شهرته اتساعا ليصبح مرجعا يُعْتَمًَدُ عليه في مجال الاقتصاد والتغذية. وقد كان هذا الكتاب المرجعي ثمرة التجارب التي عاشها في المنطقة التي ولد فيها. كما أنه كان ثمرة ملاحظات وأبحاث وتجارب قام بها داخل بلاده وخارجها، واتصالات أجراها مع مختصين ومع أناس عاديين.
ولم يكن خوزيه دوكساترو يكتفي بالأفكار والنظريات، بل كان مثقفا لا يتردد في الذهاب إلى حيث يكون الفعل والعمل متلازمين وأساسيين.

فمن عام1952 إلى عام1956 كان على رأس المنظمة العالمية للتغذية. كما أنه مَثّلَ بلاده في العديد من المؤتمرات الدولية المتصلة بالاقتصاد، وبعلم الاجتماع. ولأنه كان محل تقدير من العديد من كلّ المنظمات الدولية، ومن قبل الحكومات الكبيرة والصغيرة، فإنه رُشّحَ لجائزة نوبل للسلام.

وفي عام1964، استولى العسكريون على السلطة في البرازيل، وكان خوزيه دوكسترو أحد ضحايا انقلابهم الذي أدخل البلاد برمتها في عتمة الحكم المطلق. فقد تمّ اعفاؤه من جميع مهامه.

كما أنه جُرّدَ من جميع حقوقه المدنية. مع ذلك تمكن من الفرار ليجد نفسه في فرنسا حيث أسّسَ المركز العالمي للتقدم. كما أنه عمل أستاذا في جامعة" فانسان" الحرة. وفي عام 1973ـ توفي خوزيه دوكاسترو بسبب المتاعب النفسية التي كان ضحيتها في منفاه.
ويمكن اعتبار خوزيه دوكاسترو أول من حلل الجوع الذي كان موضوعا من الصعب طرحه قبل ذلك. وكان يعتبره قضية عالمية، وفي نفس الوقت قضية اقتصادية، وبيئية، واجتماعية. وفي كتابه "جغرافية الجوع"، هو يُظهر أن هذا الأخير ليس فقط قضية جغرافية، وإنما سياسية أيضا. لذا كان يقول بإنه يتحتم علينا أن ننتج أكثر وأفضل، وأن نوزع بالعدل منتوج المحاصيل.

والجوع بحسب خوزيه دو كاسترو "موضوع اصطناعي" خلقه الانسان، وغالبا ما اشتد خطره بالارتباط مع الاستعمار، أو مع الزراعة الأحادية مثلما هو الحال بالنسبة إلى زراعة قصب السكر في منطقة "نورداست" البرازيلية، وولبن النبات في "الأمازونيا"، والفول السوداني في السينغال. وكان يرفض النظرية التي ترى بأن تزايد عدد السكان هو السبب في المجاعات الكبرى قائلا :" الجوع هو الذي يُسبّبُ تزايد السكان وليس العكس".

وانطلاقا من الخمسينات من القرن الماضي، أصبح خوزيه دوكاسترو المدافع الأساسي المقتنع بأن الإصلاح الزراعي لا يتوقف عند إعادة توزيع الأرض، وإنما هو يتعداها إلى تقديم المساعدات إلى الفلاحين حتى يتمكنوا من تمويل مشاريعهم الزراعية، وبيعها. وكل هذه الأفكار كانت رائدة . وهي اليوم صالحة لمواجهة المشاكل الناتجة عن تدهور الطاقة الشرائية لملايين الناس في جميع أنحاء المعمورة.