مع وجود العراقيل التي يخلقها البعض أمام المصالحة الأفغانية، تستمر سلسلة إزهاق أرواح المدنيين بسبب الحرب، فعندما تتحدث الدولة عن الضحايا المدنيين الذين قضوا نحبهم جرّاء هجمات حركة طالبان، علينا أن نطّلع على التقرير الصادر عن بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى أفغانستان عن الضحايا المدنيين الذين قتلوا في أفغانستان بسبب المعارك بين الحكومة وطالبان لسنة 2019 والذي قال فيه السيد ريتشارد بينيت، رئيس حقوق الإنسان في البعثة بأن عدد المدنيين الذين قتلوا بسبب القوات الحكومية أكثر من عدد المدنيين الذين قتلوا بسبب حركة طالبان.
وهذا الرابط المباشر لـ " لتقرير " لمن أراد أن يطّلع عليه بشكل كامل وتفصيلي.
وباختصار نسرد بعض الأرقام التي جاء ذكرها في التقرير، وبحسب التقارير السابقة للبعثة من سنة 2010 إلى 2019 نرى بأن 62٪ من القتلى المدنيين كانوا ضحايا بسبب حركة طالبان، و42٪ بسبب القوات الحكومية والمليشيات الموالية للحكومة.
ويشير تقرير (UNAMA) بأن الأطفال الذين أصابتهم الحملات العسكرية الحكومية يبلغ عددهم 1032 طفلاً منهم 408 قتيل و624 جريح، منهم 341 طفل ماتوا وأصيبوا بسبب القوات الجوية العسكرية.
وأثناء الاشتباكات مع طالبان فقد قتلت الحكومة من النساء 172 امرأة، وأصابت 261 أخريات، منهنّ 135 ضحية بسبب القوات الجوية.
إن هذه الأرقام مخيفة وتدل على أن المدنيين قتلوا بسبب الطرفين، فلا يمكن للحكومة اتهام طالبان بقتل المدنيين فقط، دون الاعتراف بأخطاء القوات الحكومية ودون أن نسمع أو نرى أية محاكمات عسكرية أو مدنية ضد المتسببين بقتل هذا العدد الكبير من المدنيين.
وفيما يتعلّق بتهرّب الحكومة من تحمّل أخطائها واعترافها بقتل المدنيين، ومصداقيتها التي وضعتها على المحكّ بسبب تلفيق الأخبار والتهم، فقد تسببت صواريخ هاون أطلقها اللواء الثاني للجيش الأفغاني الواقع في أحد المعسكرات بمحافظة سنكين بولاية هلمند، يوم الاثنين 29 يونيو 2020، حيث سقطت أربعة صواريخ على سوق للمواشي مكتظ بالمدنيين، حيث تسبّب الهجوم بمقتل 27 مدنياً منهم تسعة أفراد من عائلة واحدة، كما أصيب 35 آخرون في الهجوم، حيث علّق المتحدث الرسمي للرئيس أشرف غني على الحادثة قائلاً بأن سيارة مفخخة لحركة طالبان كانت على جانب الطريق في سوق المواشي"، حيث نفت طالبان صلتها بالهجوم وذكرت بأن الجيش الأفغاني هم من تسببوا بقتل المدنيين.
ولكن سرعان ما ظهرت تقارير تفيد صحة رواية طالبان، ونفي ادعاء الحكومة، حيث ذكر نائب رئيس هيئة حقوق الإنسان الأفغانية بأن الجيش الأفغاني تسبّب بمقتل المدنيين من خلال الصواريخ التي أطلقها الجيش من معسكراته، ودعمت بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدات إلى أفغانستان (UNAMA) رواية هيئة حقوق الإنسان وأكّدت بأن الجيش الأفغاني هو من تسبّب بقتل المدنيين وإصابتهم في سوق المواشي.
وبناء على اتهام الحكومة لطالبان ونفي هيئة حقوق الإنسان وبعثة UNAMA لرواية المتحدث باسم الرئيس أشرف غني، فإنه مهنياً وأخلاقياً وسياسياً يجب أن يكون المتحدث الرسمي للحكومة أو الرئيس ذو مصداقية، وينقل الحقائق، لا أن يلقي التهم جزافاً أو ينطق ما يُملى عليه بعيداً عن الحقائق.
إن مصداقية حكومة أفغانستان في خطر، فعندما يتهم أعلى جهاز في الدولة حركة طالبان، بتفجير سيارة مفخخة في سوق المواشي، وبعد ذلك بوقت قليل يتبيّن بأن طالبان لم يكن لها أي دور في هذه العملية وتنفي الهيئات والبعثات الدولية المستقلة رواية الحكومة، وتؤيد أقوال المواطنين المتواجدين في السوق الذي أكدوا على أن الصواريخ كانت قادمة من معسكر اللواء الثاني للجيش الوطني.
إن هذه الروايات العارية عن الصحة، هي من ضمن المؤامرات التي يمارسها البعض ضد المصالحة، ومحاولة تعطيل العملية بشكل واضح؛ إن أفغانستان واقعة في صراع، فالغالبية العظمى من أبنائها يمنّون أنفسهم كل يوم بالسلام، ولكن في الجهة المقابلة هناك من يبذل وسعه لإفشال السلام واستمرار حمامات الدم في البلاد.
لقد كنا نشاهد في أفلام الهوليود قيام بعض الحكومات بقتل شعوبها وهروب مسؤوليها من العقاب، ولكن الآن رأينا ذلك في أفغانستان واقعاً وحقيقياً، فيقوم الصقور في الدولة بالتخطيط والتنفيذ لهجمات عسكرية يُستهدف فيها المدنيين والأبرياء؛ فكم مرة حدثت مثل هذه الهجمات وتهرّبت الحكومة من المسؤولية ولم تعترف بالأفعال الإجرامية لمسؤوليها؟
بعد هذا الخبر غير الصحيح والذي صدر من مكتب رئيس الجمهورية، كيف يمكن للشعب الأفغاني أن يصدق الحكومة وأعلى جهاز إعلامي في الدولة يمرّر وينشر أخبار عارية عن الصحة، وفي أقل من أربع وعشرون ساعة يتم تفنيد وتكذيب رواية الحكومة الرسمية؟
إن هذه العملية العسكرية ضد المدنيين، تضع تساؤلات كبيرة وتعيد فتح التحقيقات والبحث في كل الهجمات السابقة في أفغانستان، خصوصاً في الآونة الأخيرة والتي راح ضحيتها علماء دين ومدنيين، ولأن الحرب هي باب فوائد ومصالح لأشخاص محدّدين، فهم يعملون على استمرار المعارك بأي وسيلة يرونها، وإن كانت على حساب ومصلحة المواطنين الأبرياء.
وعلى المجتمع الدولي أن يسلّط الضوء على كافة العمليات العسكرية في أفغانستان ويضعها تحت المجهر، ولكي يتم التوصل إلى حقائق تلك الهجمات، حتى لا تكون سبباً في تأخير عملية السلام والمصالحة.
إن الجميع على أمل بأن يتقدم مَن يعتبر نفسه مسؤولاً عن الجيش الأفغاني بأخذ قرارات تعيد للدولة جزءاً بسيطاً من مصداقيتها التي فقدتها بسبب تصرّفات طائشة.
كما يجب على الحكومة الأفغانية تشكيل لجنة مستقلة تحقّق في هذه الهجمات، وتستدعي كل من له ارتباط بهذه الهجمات، ويتم نشر مجريات التحقيقات ونتائجها بشكل والضح وشفّاف عبر وسائل الإعلام.
حيث يقع على عاتق الدولة وطالبان عدم التساهل أبداً مع قتلة المدنيين، ويجب عليهم تحويل المسؤولين عن الهجمات التي استهدفت المدنيين إلى المحاكم واتخاذ العقوبات عليهم، خصوصاً الحكومة التي يجب عليها فعل ذلك ونقل نتائج التحقيقات للشعب الأفغاني.
كما أنه لا يحق للحكومة بأن تفعل ما تشاء تحت غطاء الأمن الوطني ومكافحة الإرهاب، لأن استهداف سوق شعبي في وضح النهار، لا يرتبط البتّة بمكافحة الإرهاب ولا حتى الأمن الوطني، وهذا ليس بجديد، فقد حدثت مثل هذه الهجمات مئات المرات وسقط مدنيون أبرياء من الصواريخ الجوية والقنابل والمقذوفات وقصف الطيران، ولكن مرّت مرور الكرام دون حسيب أو رقيب.
إن هذه الشعارات الرنّانة التي يردّدها المسؤولون الأفغان، وعمليات القتل والاستهدافات العسكرية دون حساب ومساءلة، يجب أن تتوقف بشكل كامل، ولن تتوقف وتنتهي إلا بتحويل عدد من كبار المسؤولين إلى المحاكمة.
لقد انتهى زمن الحماية المطلقة والحصانة التي يتمتّع بها المسؤولون في الدولة، في قادم الأيام وإن طالبت المدة فحتماً سيكون هناك حساب من الشعب للمسؤولين على كل تجاوزاتهم التي مارسوها بحق شهبهم وبلادهم.
وبالنظر إلى عدد القتلى العسكريين من القوات الحكومية والبالغ عددهم أكثر من خمس وخمسون ألف عسكري، وهذا الرقم المهول فقط في عهد الرئيس أشرف غني خلال دورته الأولى في الرئاسة، أفلا يكفي الحكومة هؤلاء القتلى والضحايا وتنخرط في المفاوضات المباشرة وتمهّد البلاد نحو السلام ووقف قرع طبول الحرب؟
أما إن كانت البلاد متجهة نحو المفاوضات من أجل المصالحة، فلماذا يردد بعض أركان الدولة بشكل مستمر مناداة طالبان بالإرهابيين، لأن هذا يُعدّ تحريضاً ضد المصالحة والمفاوضات باعتبار طالبان أحد أطرافها.
وهناك أمرين لابدّ من معرفتهما، أولاً: لن تقوم حركة طالبان بوقف إطلاق النار دون التوصل إلى اتفاق كامل، وثانياً: لن تدخل الحركة في المفاوضات المباشرة مع الحكومة إلا إذا تم الإفراج عن خمسة آلاف سجين حسب ما اتفقت عليه الحركة مع الأميركيين.
لقد حان الوقت أن يكفّ المسؤولون الأفغان عن إصدار الشعارات الرنّانة، ويعملوا بشكل جدّي لاستقرار بلادهم، وعلى الدولة أن تتحمّل مسؤوليتها في الوضع الراهن ويتم تحويل موجة البلاد من حرب ومعارك إلى موجة متلاحمة متصالحة ويكون فضاء البلد يتمحور حول المصالحة.
ستكون أفغانستان يوماً ما بلداً مسالماً يضمّ كل أبنائه مهما كان تاريخهم، وتحمل بين أضلعها أبناءها وبناتها بمختلف دياناتهم من المسلمين واليهود والسيخ، وأياً كانت أحزابهم من الإسلاميين والشيوعيين والليبراليين، ولن تتخلّى عنهم سواء كانوا من المجاهدين السابقين أو من طالبان أو من القوات الحكومية.
التعليقات