قرأتُ مقال الزميل، حسن اسميك (في سيرة المدن التي كسرت قيد التاريخ: "أبو ظبي نموذجاً") الذي تحدث فيه عن التطور الكبير الذي شهدته الإمارات العربية المتحدة وذروته في إطلاق مسبار إلى المريخ، وعدتُ قليلاً إلى التاريخ غير المقروء بل المشهود، ومنذ تأسس هذا الاتحاد الفيدرالي الاختياري بين إمارات مترامية ومشتتة هنا وهناك، وبقيادة رجلٍ حكيمٍ لم يتخرج من أكسفورد أو من كلية عسكرية ليكون جنرالاً ينقلب على رفاقه بانّقلاب، ولا رئيس حزبٍ يتآمرُ مع مخابراتٍ دولية لكي يتسلم مقاليد الحكم، أو يزور الانتخابات لكي يفوز ويتحكم برقاب عباد الله، بل من إنسانٍ عفويٍ حكيمٍ مخلصٍ لنفسه ولقيمه وللوطن الذي ينتمي له، أنه الإنسان زايد، الذي تعجب ذات يوم من ألا يكون لفردٍ من أبناء شعبه بيتاً يملكه.

من هنا بدأت الحكاية، حينما نبض قلب القائد لأولى خطوات الإنسان لكي يبدع، أنه الانتماء للوطن بملكية دار السكن.

في كوردستان العراق التي تنهض على ذات المسار الذي تخطّاه الشيخ زايد، أرسى البارزاني وأسس كياناً سياسياً قادماً لا محالة إلى فضاء الأمم المتحررة والمتحدة، مُعتبراً الإنسان هو الهدف، ورغم كل التحديات التي واجهها الإقليم، استطاع أن يثّبت بأنه الأفضل في بحرٍ متلاطمٍ من الفوضى والفساد والإرهاب واللادولة، ويقيناً لم يكن لوحده، فقد شهدت امتداداً للشيخ زايد في ممثل اتحاده العتيد في قنصليتهم العامة في الإقليم، فعلاً كانوا يمثلون ذات المدرسة التي أنتجت إمارات اليوم، حيث دأبوا على خدمة الإنسان وتطوره النوعي بالتعاون مع الإدارة السياسية للإقليم، ولن ينسى العراقيون مواقفهم يوم استباحتهم قوى الظلام القادمة من أعماق التاريخ المتوحش في الموصل والأنبار وسنجار وتكريت وغيرها، فكانت إمارات الشيخ زايد في أهبة الاستعداد لمساعدة الإقليم.

ولأن جورج أوريل، في روايته 1984 تنبأ بشكل النُّظم التي تحكم هذه الشعوب المغموسة بالتاريخ المقرف وفتوحاته وسبياه، أسس جمهوريته بعد تلك الرواية في مملكة الحيوان، لكي يعطينا نموذجاً لمن يحكم بلداننا خارج دائرة الإنسان الذي فكر بالحلقة الأولى للانتماء، وهو قائد الإمارات ومؤسس نهضتها، وإن كانت أبو ظبي قد فتحت أبواباً ومساراتٍ إلى العلى، فأن مدينتي سنجار في كوردستان العراق انّهارت عند أبوابها حضارة آلاف السنين من تطور الإنسان النوعي والثقافي والسلوكي، بل ونسيت كل معاناة البشرية وتعب علماؤها في كل مجالات الحضارة حينما داهمتها مجاميع من المتوحشين الآدميين، لكي يقتلوا كل الذكور الكبار ويستعبدوا آلافاً من الصبية والأطفال ويسبوا آلافاً مؤلفة من الصبايا والنساء، في واحدةٍ من أقذر ما شهدته البشرية في العصر الحديث، في صبيحة اليوم الثالث من أغسطس 2014م.

وأنا اقرأ مقالك أخي حسن، تذكرت تراكماً تاريخياً من السلوك الاجتماعي والسياسي التي فرضته الأنظمة الحاكمة لبلدي، والتي كانت تعتبر الإنسان المختلف دينياً ومذهبياً وقومياً من الدرجة الثانية أو ربما بدون أي درجة، فهو ما لم يكن عبداً لها لا يساوي حتى ثمن الطلقة التي يعدم بها رمياً بالرصاص والتي كانت تجبى من ذويه، بينما كان الشيخ زايد يعمل من أجل تمليكه داراً للسكن!

صدقني لم نكن نطلب منذ البداية الا دارا للسكن، لكنهم رفضوا ذلك واعتبروه تمردا وعصيانا وانفصالا، فبدأت دوامة العنف ونافورة الدماء طيلة أكثر من سبعين عاما، تصلبت فيها العبرات وتاهت الأوطان وتوقفت الحياة ليتوقف معها الانتماء لها!

وحينما فشلوا في ابادتنا ومنعنا من بناء دار للسكن، شنوا هجماتهم تحت ظلال راية الإسلام والقرآن ليؤسسوا من جماجم أطفالنا الدولة الإسلامية في العراق والشام، ويخطفوا اكثر من ستة الاف صبية وامرأة كسبايا بعد أن قتلوا اضعافهم من الرجال والشباب والفتيان، وما تزال اكثر من ثلاثة آلاف امرأة كوردية إيزيدية مسبية ومستعبدة من قبل من ادّعى أنه يمثل الرّب وشرعه ودستوره في مقاتلة غير المسلمين حتى يؤمنوا بدينهم وإلا فدماؤهم مُباحة ونساؤهم مسبية وأطفالهم مستعبدة، لاحظ أننا في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين!، والمفجع إن كل هذا حصل أمام مرأى ومسمع كل دول المسلمين ومجتمعاتهم وقادتهم وأئمتهم، ولم نسمع أو نرى رفضاً علنياً ولا تظاهرة مضادة ولا تحريماً لما جرى من أبشع ما شهدته المجتمعات البشرية المعاصرة.

كيف إذن نتوقع أن ينهض بلداً بهذه التراكمات من الجرائم بدءاً من الأنفال والمقابر الجماعية ومروراً باعتبار الكورد من جنس الجن، وانتهاءً بإبادتهم، كونهم من الإيزيديين!؟

لقد كسروا عند أبواب أبو ظبي قيود التاريخ، وارتحلوا الى المريخ، وعند بوابات مدينتي سنجار في كوردستان العراق استوردوا تلك القيود وحطموا بها كل شيء من جماجم الأطفال الى كل ما توهمناه حضارة ومدنية وارتحلوا بهم الى الارض ليتركوا لنا جروحا لن تندمل!
[email protected]