قبل فترة صدر مقال يصِف بعض رؤساء حكومات تونس المتعاقبة بعد الثورة ووزرائهم "بالفتيان الذهبيين" وهو وصف أصبح وصماعالِقا بكل المسؤولين ذوي الجنسيات المزدوجة وخريجي المعاهد والكليات الأجنبية الذين ظهروا مباشرة بعد الثورة.

بعضهم إلتحق بأحزاب قائمة وتنقلوا بينها كما يتنقل البدو الرحل لكل ارضخصبة. آخرون أسسوا أحزابا جديدة وسوّقوا للتونسيين على أنهم "بديلا" للطبقة السياسية التاريخية التي ناضلت ضد الاستبداد. حتى ان "البديل" وهو اسم حزب مهدي جمعة أحد رؤساء حكومة تونس وهو أيضا مِمن ينطبِق عليهم صِفة الفتى الذهبي.

لم تُعمر سلالة الفتيان الذهبيين طويلا وفشلتفي اخراج تونس من عنق الزجاجة لعدة أسباب،أهمها السِمةُ الطاغية على "فتياننا" وهي العجلةُ والتسرّع والانتهازية المُفرطة وتقديم المصلحة الشخصية على المصلحة العامة وهي السمات التي ثار على انقاضها التونسيون في 2011.

يمكن القول ان الحظ ابتسم للرئيس التونسي قيس سعيد حين فرّط حزب النهضة الإسلامي في ورقة تشكيل الحكومة و آلت المهمة وفق نص الدستور الى الرئيس الذي ما كان ينتظر مثل هذه الهدية السماوية، فنسبة الفوز في ألعاب الحظ هامشية و متناهية في الصغر وتزداد الأمور صعوبة يمكن ان تقترب من الاستحالة، حين يكون اللاعب، مثل قيس سعيد، من خارج المنظومة برمتها لا بل هو ينادي تغييرها واستبدال ميكانيزمات اشتغالها لأن "الشعب يريد" حسب شعاره الانتخابي وهو بذلك يَقلب المُعادلة لتصبح من الأسفل الى الأعلى صعودا.

يكاد يَجمع هشام المشيشي الذي كلفه قيس سعيد بتشكيل الحكومة بعد استقالة الياس الفخفاخ كل هذه النقاط التي ينادي بها الرئيس التونسي منذ انتخابه، فالمشيشي خارج المنظومة الحزبية الممثلة في البرلمان والتي يجب مراجعة شرعيتها حسب قيس سعيد ولم يرد اسمه ضٍمن مقترحات الأحزاب الموجّهة للرئيس التونسي وهو إضافة الى ذلك خارج منظومة المدن المترفة والمحظوظة نسبيا والمتحكمة منذ الاستقلال بدواليب الحكم والدولة. فالمشيشي منحدر من جهة الشمال الغربي المُهمش وهو على النقيض تماما مع الفتيان الذهبيين.

في هذه الجولة بالذات خرج قيس سعيد منتصرا على "صديقه اللدود" حركة النهضة الإسلامية فقد جسّد على أرض الواقع النظام الرئاسي بعد افتكاك زمام المبادرة وتعيين من كان مستشاره بالقصر مكلفا بتشكيل الحكومة في حين ان النظام السياسي التونسي هو نظام شبه برلماني. وقيس سعيد قد يدفع ايضا المشيشي الى تشكيل حكومة كفاءات من خارج المنظومة الحزبية ليدعم مقولة فشل هذه المنظومة في إدارة البلاد منذ قرابة العشر سنوات. اذن نحن امام فرصة لتقويض نظام سياسي وانتخابي برمته وربما الإستعداد الى ما دعا له البعض للجمهورية الثالثة.

أمام هذه المعادلة الصعبة لن يكون امام حركة النهضة الإسلامية وحلفائها في البرلمان هامش كبير للمناورة. ففي حال قرر هشام المشيشي تكوين حكومة كفاءات غير متحزبة ليس امام النهضة وحلفاءها سوى التصويت او سيُواجهون بشبح حل البرلمان وهو السيناريو المرعب الذي يُلوّح به الرئيس التونسي في حال سقطت حكومة المشيشي. كما يمكن لحركة النهضة ان تصوت للحكومة وتترصد للمشيشي أي خطأ لتسقطه في اقرب فرصة، مثلما حصل مع سلفه الياس الفخفاخ. وحتى في هذه الحالة فإن المبادرة تعود الى رئيس الجمهورية.

وفي كل الحالات فإن تونس تعيش عبثا سياسيا قوامه صراع أعمى على السلطة و من أجل السلطة لا غير، لأن قراءة بسيطة لأرقام النمو المفزعة المتوقعة بستة نقاط سلبي نمو وارتفاع نسب البطالة و الفقر و عجز الموازنة يفترض من الطبقة السياسية الحالية التعقّل و التفكير في المصلحة العامة على المصالح السياسية الضيقة،الا ان الواقع الآن و ما هو مُنتظر على المدى القريب يؤشر بخلاف ذلك تماما لأن القضية لم تعد قضية تَموقع في السلطة فقط، و إنما مسألة بقاء بالنسبة للحركة الإسلامية و حلفاءها. هذاالصراع كشفته جلسة سحب الثقة من رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي حين تمترس كل شِقٍ خلف قلاعه في إعادة لمشهد الاستقطاب الثنائي الذي عاشته تونس خلال السنوات الأولى من الثورة بين الإسلاميين والقوى التقدمية و الذي أدى الى اغتيالات سياسية ما تزال البلاد تعاني من تبعاتها الى الآن.

و بحسابات بسيطة، اذا ما تمت المصادقة على حكومته مهما كان شكلها، سوف يقود هشام المشيشي الجهاز التنفيذي وسط أمواج الصراعات و الإستقطابات و في وضع اقتصادي محلي و عالمي كارثي. و سيجد قيس سعيد نفسه مجبرا لمساندة مرشحه بكل الوسائل لأنه هذه المرة و خلافا لإلياس الفخفاخ كان خياره وحده وسوف يتحمل تبعات فشله او نجاحه في إدارة الأزمة. هذا الاختيار تم على أساس ما يعتبره فشل منظومة الأحزاب في إدارة الشأن العام وهو أيضا ضربة للنظام السياسي والإنتخابي للجمهورية الثانية القائم على الأحزاب و تشتت سلطة القرار. فإذا ما نجح رئيس الحكومة المكلف ووزير الداخلية في إدارة الأزمة السياسية والخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة فإن قيس سعيد سيكون ضرب، كما يقول المثل، عصفرين بحجر واحد، فهو سيؤكد فشل المنظومة الحزبية الحاكمة وشرعيتها، ويدعم دور رئاسة الجمهورية ليس في حماية الدستور فقط و إنما أيضا في إدارة الشأن الاقتصادي بطريقة غير مباشرة، رغم ان الدستور يحصر صلاحياته في الخارجية والدفاع. لكن في حكومة الرئيس تتغير الحسابات و المعادلات و من بينها القطع مع الفتيان الذهبيين.