كل إنسان على وجه الأرض يملك حرية التفكير، وليست هناك قوة تستطيع أن تمنعه من أن يفكر.

لأن عملية التفكير ممارسة تأملية داخل عقل الانسان او مخيلته، وغير مدركة نتيجتها من قبل الآخرين إلا عندما تتحول الى عملية تعبير. لأن الحرية التي ناضل من أجلها كل المهتمين بحرية الانسان هي حرية التعبير وليست حرية التفكير.
حتى في قرارات العهد الدولي لحقوق الانسان، تحدثت المادة ١٨ عن حق الإنسان في حرية الرأي والعقيدة والفكر. ولم تقل ( التفكير) لأن الفكر نتيجة خارجية لآلية التعبير بعد مرحلة التفكير الداخلية .. ولأن التفكير وسيلة تأملية داخلية يستطيع الإنسان أن يمارسها دون قيود بسبب انعدام الرقابة الخارجية، سوى ما يفرضه الإنسان على تفكيره خضوعاً لسلطة ضمير أو خوف مزمن في مخزون اللاشعور.لكن المشكلة تكمن في كيفية خروج ذلك التفكير كتعبير يتحول الى فكر ؟!
والحرية بشكل عام حق إلهي مقدس يكفل للإنسان أن يعيش حراً كريماً دون أن يكون لأحد سلطة ان يقرر شكل وجوهر حياة الناس نيابة عنهم.
وكلما تحدث العقلاء والشرفاء عن الحرية يكون هناك من يتأذى حين يقرأ أو يسمع كلمة الحرية، لأنها تناقض شيئاً في ذاته يحن الى سلطة القيد ووقع العصا.
وقد قالت العرب: أن الحر تكفيه الإشارة والعبد يقرع بالعصا، كوصف دقيق للفرق بين حالة الإنسان الحر وحالة الذي تتوق نفسه للعيش في محيط مفعم بالإستبداد.
وقد وصف افلاطون العبد، بأنه ذلك الذي لو امطرت السماء حرية لأستعمل مظلة فوق رأسه كي تقيه شرها.
وأسهل تبرير عند كارهي الحرية لمنعها هو: أن يصفوها بأنها تعني التمرد على القيم الأخلاقية كأبشع وصف ليقنعوا القاصرة عقولهم كيلا تدرك الغاية الأسمى للحرية التي تتجلى فيها أنقى القيم الإنسانية الأخلاقية حسب نسبيتها وليس في كمالها . بل أن ما يحدث من ممارسات لا أخلاقية كانتهاك لحقوق الإنسان وقيم العدالة والمساواة، هو مايحدث بنسبيته الأعلى وسط كل بيئة تتدنى فيها حرية الناس بفعل القيود التي تسلبها قدسيتها. فالخير والشر موجودان على مر التاريخ وفي كل العصور، لكن نسبية الخير تتفوق بمراحل على نسبية الشر حسب نسبية الحرية المرتفعة لمكان دون آخر، والناس أكثر عقلانية وأسمى اخلاقاً كلما عاشوا في بيئة فضاؤها أرحب للعيش بحرية.
لكن أولئك المناهضين للحرية كحق إلهي مقدس عندما يشعرون بالحرج كلما أشهروا رماحهم وسيوفهم ضد قيمة الحرية المقدسة، يلجأؤن الى حيلة أدهى وأخبث من ذلك الوصف القبيح للحرية بأنها دعوة للإنحطاط والتسفل، ألا وهو اشتراطهم ان تكون للحرية قيوداً حرصاً منهم على المحافظة على قيم المجتمع ومعتقداته وعاداته حسب ادعاءاتهم.
والقيم والمعتقدات والعادات التي يريدون المحافظة عليها: هي ما يناسب تسلط افكارهم أو معتقداتهم ومصالحهم حتى وان كانت تخالف أفكار ومعتقدات ومصالح من يشاركونهم الهوية والأرض والمصالح،وتتعارض مع القيم الأخلاقية التي اتفقت حولها كل النواميس العالمية.
بل ان القيود التي يريدون فرضها كشروط لمنح الإنسان حق الحرية المقيدة، قد تمنحهم حق ممارسة الظلم والفساد وانتهاك حقوق الإنسان دون عقاب،في الوقت الذي يجرِّمُون فعلها عند من لا يشبههم.
وبرغم أن مناهضي الحرية كقيمة إنسانية سامية يدركون أن القيم الأخلاقية والإيمانية لاتزدهر إلا في جو مطلق الحرية حين يمثل كل إنسان حقيقته دون تصنع أو تكلف، وأن الناس عندما تعيش في واقع غير حر يتقمصون تلك القيم شكلاً للوصول الى غايات غير إنسانية، إلا أنهم يريدون وضع ضوابط وقيود على مايسمونه حرية، دون أن يدركوا حقيقة أن الحرية الحقيقية حق إلهي مقدس كامل، وأنه لايوجد مايسمى بربع حرية أو نصفها أو ثلاثة أرباعها، وأن ما يسمونه ضوابط للحرية يجب أن تكون من أجل حماية الحرية المطلقة للإنسان وليس لتقييدها كما ينادون.
وتلك الضوابط التي يجب أن توضع لحماية الحرية من الإختراق والإعتداء والإنتقاص: تتمثل في الأنظمة والقوانين التي تعطي للإنسان حق العيش والإختيار والممارسة والتصرف دون أن يتعدى على حرية الإنسان الآخر.
هنا، تصبح الأنظمة والقوانين شروطاً لحماية الحرية المطلقة، وليست كما يريدونها عشاق القيد.. أن تكون قيودا!
وعندما يشعر مناهضوا حرية الانسان بالحرج نتيجة ضعف حجتهم في الدفاع عن قيود الحرية، يلجأؤن الى الدين كعادتهم لتبرير حججهم الواهية ولتصوير الحرية المقدسة كعمل لا أخلاقي يتنافى مع قيم الدين السامية. ويتجاهلون تلك الآيات العظيمة التي كفلت للإنسان حريته المطلقة قبل مبادئ العهد الدولي لحقوق الإنسان ومادته الثامنة عشر بألف واربعمائة سنة.
فعن حرية الفكر والرأي يدعونا المولى عزوجل في آيات كثيرة أن نستخدم عقولنا ونتفكر ثم نتدبر:
أفلا يعقلون. أفلا يتفكرون، أفلا يتدبرون ؟
ودعوة الله للتعقل والتفكر والتدبر لن تكون ذات نتائج ايجابية إلا بحرية التعبير الذي يُخرجُ مايفرزه العقل من تفكر وتدبر الى الواقع المعاش ليكون مصدر إلهام للناس بمختلف أفكارهم وتنوع آرائهم حين تتلاقح لتصنع العلم الذي يعمر الأرض ويفيد البشرية.
وعن حرية العقيدة يضع الله أوامره الواضحة التي تمنع قسر الناس لاعتناق دين أو عقيدة، وليس هناك أوضح ولا أفصح من تلك الآيات التي دلت على حرية الدين والمعتقد قبل قرون عديدة. يقول الله عزوجل في كتابه المبجل:
من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
ويقول جل شأنه:
لا إكراه في الدين.
الى أن يقول:
لكم دينكم ولي دين.
الغريب أن العلمانيين الغربيين يتفاخرون بأن العلمانية التي ظهرت في الغرب قبل أربعمائة سنة قد أعطت للإنسان حرية الإيمان، ويخجل المتأسلم أن يتفاخر بأن
الإسلام قد أعطى للإنسان حرية الإيمان والفكر والمعتقد قبل عصر العلمانية الغربية بقرون. لأن المتأسلمين لا يريدون الإفصاح عن تلك الدرر الأخلاقية العظيمة في القرآن الكريم كيلا تتعارض مع نزعتهم للتسلط على عقل الإنسان ووجدانه بإسم المزيف من الدين.

لا أعرف شيئاً عن الحرية المقدسة للإنسان في كلام الله المنزل في التوراة والإنجيل، لكني على يقين تام بأن الدين الحق سيكفل للإنسان حريته في كل زمان ومكان. وأن الدين الحقيقي غير ما يقوله رجال الدين المسيسين أو الذين يجعلون من الدين وسيلة للوصول الى غايات ذات نزعات اقصائية وسلطوية.
أعود فأقول، أن الحرية حق مقدس مطلق، والأنظمة والقوانين ضوابط لحماية الحرية وليست قيوداً عليها !