الذي دعاني لاختيار هذا العنوان ما شاهدته من تعليقات على بعض المقالات التي كنت قد نشرتها حول عدة مواضيع سياسية وفكرية تتعلق بمنطقتنا المنكوبة بعقلية تكفير الآخر المختلف وذلك بتخوينه أو إخراجه من دائرة الإيمان بالدين والوطن والقوم!
حيث تشير الكثير من هذه التعليقات والردود إلى حجم وعمق المأساة في بنية عقلنا الجمعي العربي وليتها كانت مقتصرة على عامة الناس بل تعدتها إلى ما يسمى "بالنخب المثقفة" التي خلعت عقلها عند عتبات باب معبد "الجهل المقدس". فدخلته لتشارك في نشوة تعاطي وصلات الردح والتخوين؛ بحجة الدفاع عن الوطن الذي ضيعته تلك النخب المنتمية لشرائح ومجموعات سياسية حركية ساهمت في الإجهاز على ما تبقى من وعي في عقلنا السياسي؛ ما أدى إلى أسره لصالح الإيديولوجيا والوعي الزائف، الذي أتقن التشدق بالعنتريات الفارغة التي تدغدغ مشاعر الناس وتعزف على وتر ما يطلبه الجمهور!
نعم يا سادة كأننا ما زلنا نعيش في حقبة ما قبل مائة عام؛ فما زلنا نتعاطى مع أزماتنا بنفس العقلية التي كانت سائدة آنذاك، بحيث لم نتعظ من مسلسل خسائرنا السياسية الفادحة التي أعقبت سايكس بيكو؛ فقد أصبح التمترس وراء الشعارات والتترس بها هو المنقذ لنا من ضلال واقعنا البائس الذي صنعناه بأيدينا وأنضجناه بنار أحقادنا وعنجهياتنا!
ورغم هذه العقليات المتمنطقة بسلاح التكفير الوطني أو الديني؛ إلا أنني ما زلت متفائلاً ولو بعد حين بخروج مجتمعاتنا من أسر هذه الثقافة العدمية، التي لا ترى في الآخر وفكره إلا الدنس الخالص (المدنس) بينما ترى نفسها تحمل فكر القداسة (المقدس) النقي؛ فهكذا ضعنا بين ثنائيات فكرية طبعت مجمل خارطة ثقافتنا فحولتها إلى ثقافة "صفرية" تذهب بالإختلاف والخلافات إلى دائرة الصراعات المدمرة، تماماً كما يجري الآن من حروب وأزمات ونزاعات مفتوحة في أكثر من ساحة في منطقتنا العربية، التي ضجت جغرافيتها من وطأة حروبنا العبثية التي أهلكت الحرث والنسل!
لذلك كله أقول للذين يمتلكون هذا الطراز من هذه العقلية التكفيرية بأن يقفوا مع أنفسهم ويقرأوا تاريخنا بإيجابياته وسلبياته، سواء في ماضيه السحيق أو القريب و يقارنوه مع تواريخ الأمم الأخرى؛ عندها سيكتشفون بأننا لم نتعلم من تاريخنا أو من تاريخ الشعوب الأخرى التي تعرضت لاحتلالات وأزمات وحروب مدمرة أكلت الأخضر واليابس، ومع ذلك فإنها واجهت قدرها بشجاعة فكرية وواقعية، فانحنت للعاصفة حتى تمر ومن ثم خلقوا معجزتهم، فنهضوا وتقدموا ركب الحضارة.
بالتأكيد نحن جميعاً لسنا ملائكة ولا شياطين؛ لكننا بشر نمارس التفكير ونتعاطى مع شأننا السياسي بما يتوافق ومنطق الواقعية السياسية، فإن أصبنا فلنا أجران وإن أخطأنا فلنا أجر الاجتهاد في التحليل!
لكن ما يؤسف له هو أن تبقى شرائح عديدة في مجتمعاتنا تعيش في وهم إدعاء إمتلاك الحقيقة المطلقة؛ سواء الدينية أو السياسية فتدخل من تشاء جنة الوطنية أو نار الخيانة؛ وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن هؤلاء قد أنكشفت لهم حقيقة الأشياء وكنهها من خلال زعمهم هذا الذي يحولهم إلى ناطقين بلسان السمآء والحقيقة!
إن الوعي الزائف أو المؤدلج الذي يمارسه ملاك الحقيقة المطلقة تجاه المختلف معهم في الرؤية والتحليل لا يزيد مجتمعاتنا إلا ضعفاً على ضعف؛ رغم أنهم يدعون كراهيتهم لإسرائيل والعالم الغربي، بالرغم من أن سر قوة هذه الدول يتمثل في تعدديتها واختلاف الآراء فيها بين يمين ويسار ووسط بينما هم يريدون من خلال هذا النمط من التفكير السياسي الذي يحملونه صبغ مجتمعهم بفكر اللون الواحد؛ وهذا يعني بأنهم يعملون على بقاء مجتمعاتهم أكثر هشاشة ووهناً، وهم بذلك يخدمون بجهلهم مخططات أعدائهم المزعومين؟!
لذلك أرى بأن ما يزيد من استئساد الآخرين علينا هو نحن؛ لأننا نلغي عقلنا لصالح عواطفنا الجياشة التي لا تتسلح بالوعي والفهم العميق لمجريات الأحداث، ما يجعلها تلقي بنا في متاهات و دوامات من الصراعات والمغامرات غير المحسوبة عواقبها؛ بحيث أصبح ينطبق علينا وفي كل قضايانا ومشاكلنا مقولة: "أعدل قضية في أيدي أفشل محامين"!
فبدلاً من مراجعة ونقد مساراتنا الفكرية والسياسية التي مررنا بها، والتي ألقت بنا في أتون الجحيم الذي تعاني منه مجتمعاتنا في وقتنا الراهن؛ نستبدل ذلك بثقافة الشتم والتخوين والصراخ والعزف على أوتار العواطف الغوغائية التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولا ترد حقًا أو تسترد أوطان. حتى لما خضنا معاركنا وحروبنا دخلناها بعقلية القبيلة التي همها الإغارة دون حساب لمآلات ونتائج تلك الغزوات، مما جعل الخسائر أضعاف المكاسب؛ لقد أهدرنا ثرواتنا وطاقتنا دونما استراتيجيات فعالة، فضاعت مشاريعنا التنموية التي تم إجهاضها تحت شعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، وبذلك أجلنا نهضتنا وخروجنا من مستنقع التخلف إلى ما بعد تحرير الأرض قبل أن نحرر الإنسان، فضاع الاثنان؛ بحيث ينطبق علينا ما ورد في الحديث الشريف عن المنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى!
ولذلك كله أوجه حديثي لمن يزعمون امتلاك مفاتيح السماء والوطنية، بأن يراجعوا أفكارهم من خلال نقدها؛ ولا عيب في ذلك فالنقد الذاتي هو العلاج والمنقذ من التمادي في الصعود إلى الهاوية، فإن لم تقوموا بتلك المراجعة فستغدو حروبكم التي اشعلتموها عبثية لا معنى لها وبالتالي ينطبق عليكم المثل القائل: "تمخض الجبل فولد فأراً"!