كان عليّ أن أقرأ الفصل الذي خصّصه ميلان كونديرا في كتابه:»ل قاء" الصادر عام 2009 لكي أكتشف عظمة الكاتب الفرنسي أناتول فرانس(1844-1924) . وقبل ذلك، كان في" القائمة السوداء" بحسب تعبير صاحب"خفة الكائن الذي لا يحتمل". ففي سنو ات الشباب، وتحت تأثر السورياليين الذين نعتوه ب "الجثة المتعفّنة" حتى قبل أن يجفّ قبره، أصبحت نفورا منه ومن أعماله. غير أن جهلي بما أبدع، لم يمنعني من أن أقول في أكثر من مر ة بإن جائزة نوبل للآداب التي حصل عليها عام 1922، مُنحت له خطأ! لكن بعد أ ن قرأت الفصل المذكور، اكتشفت فداحة خطأي.

وكان عراب السوريالية أندريه بروتون قد نسب عيوبا ثلاثة لأناتول فرانس. وهي "الشكوكية"، و"الواقعية"، و" غياب القلب"، أي "العاطفة". إ لاّ أن ميلان كونديرا يُفنّدُ بالأدلة القاطعة أخطاء صاحب" نادجا"، و"الحب المجنون". وهو يقول بإن "الشكوكية" كانت عنصرا أساسيا في رؤية أناتول فرانس الوجودية والفلسفية. وهذا ما يعكسه الخطاب الذي ألقاه أمام "جمعية الدراسات الخاصة بأعمال رابليه"، وكان ذلك يوم 21 مارس -آذار 1912، أي في نفس السنة التي صدرت فيها روايته" الآلهة عطشى". ففي ذلك الخطاب قال:" عندما ندرس تاريخ البشرية، نحن نلمسُ أن الناس يتقاتلون فيما بينهم بدون هوادة عبر كلّ الدهور. ولعل ذلك يعود إلى إلى غياب الشك عندهم. إن الشك أيها السادة هو السلام، وهو اللطف، وهو الرحمة(...) علينا ألاّ نأمل بأن يفكر الناس مثلنا. إن تشابه العواطف شيء مقيت وشنيع". وعلق ميلان كونديرا على هذا الكلام قائلا بإن الفن قام منذ البداية على الشك في المسلّمات، واليقينيّات، ورفضها. فلماذا يعيب أندريه بروتون إذن على أناتول فرانس "شكوكيته" ؟
ويعتقد ميلان كونديرا بأن بروتون كان يرى أن النظر إلى الواقع لا بدّ أن يكون سورياليا أو لا يكون. وهو برؤيته هذا يرغب أن يحبس الفنانين والمبدعين في قفص واحد. والحال أن هناك رؤى مختلفة ومتنوعة ومتعددة للواقع. وما يحاسب عليه المبدع أو الفنان هو الطريقة الفنية التي يعالج بها الواقع، وليس نظرته لهذا الواقع. ويرى ميلان كونديرا أن أناتول فرانس عالج في روايته "الآلهة عطشى" واقع الثورة الفرنسية بطريقة فنية عاليه . وإذن يكون اتهامه ب "الواقعية" معيب وعار من الموضوعية.

وأما "غياب القلب"، أو "العاطفة" فهو أمر حيّر ميلان كونديرا الذي كتب يقول : » فهل ألاّإمتثالي( يعني بذلك أندريه بروتون) كان يريد أن يعاقب "الجثة المتعفنة" (يقصد أناتول فرانس) بهذه المقرعة، مقرعة كلمة فسَدَ معناها من كثرة الإستعمال؟". ولعل ميلان كونديرا على صواب فيما ذهب إليه. إلاّ أن أبلغ رد على بروتون جاء من أناتول فرانس نفسه حيث يشير في "الآلهة عطشى" أن"غالمان"، الشخصية الرئيسية فيها، وجد نفسه ذات يوم بين زملائه، قضاة الثورة، المضطرين وهم في عجلة من أمرهم، إلى محاكمة المتهمين أو إخلاء سبيلهم. وبحسب أناتول فرانس ، هناك بين هؤلاء القضاة من هم لامبالون، وفاترون لا تحركهم أية عاطفة. ومن جانب آخر هناك الذين تقودهم عواطفهم، ويبدون غير مقابلين للمحاججة، وهم يحكمون بالقلب. وهؤلاء يحاكمون دائما وأبدا. ومعنى ذلك أن الذين "يقدّسون القلب"، و"العاطفة"، ويعلون من شأنهما، يقتلون هم أيضا، وبقسوة شديدة غالب الأحيان. وهذا ما أثبتته جلّ الثورات التي اشتعلت بهدف تخليص الإنسانية من القهر والظلم والإستعباد. وأندريه بروتون الذي كان يفاخر بأن له "قلبا رقيقا"، وأن الإبداع الحقيقي ينبع من القلب، ويخاطب القلب مباشرة، لم يكن يتردد في "محاكمة" رفاقه من الذين تمردوا على زعامته بقسوة وعنف.

ويرى ميلان كونديرا أن الآلهة عطشى" ، الرواية التي احتقرها السورياليون، وشنّعوا بصاحبها، عمل أدبي وفني رائع. وهي لا تدين الثورة الفرنسية فقط، وإنما كلّ الثورات الكبيرة التي هزت العالم خلال القرن العشرين :الثورة البلشفية بمعسكراتها الستالينية (نسبة إلى ستالين)، والثورة الصينية بفواجع" ثورتها الثقافية"، وأيضا الثورة الكوبية، وثورة "الخمير الحمر" التي حوّلت كمبوديا إلى مقبرة جماعية، والثورة الإسلامية في إيران. وصحيح أن الثورات أطاحت بأنظمة فاسدة واستبدادية، موهمة أنه سوف تحقق الحرية والعدالة والكرامة للشعوب، إلاّ أن سرعان ما تنكرت لوعودها، لتتحول إلى آلة رهيبة للقمع، والبطش، مُشيعة الفساد والخوف. وقد يكون ميلان كونديرا على حق عندما كتب يقول بشأن "الآلهة عطشى":» شابا كنت أسعى إلى أن أجد لنفسي توجها في عالم كان بصدد النزول إلى الهاوية، ديكتاتورية لم يكن واقعها الموضوعي متوقّعا، ومرغوبا فيه، ومتخيّلا من قبل أيّ كان، خصوصا من قبل أولئك الذين هلّلوا وبشروا بها: الكتاب الوحيد الذي كان باستطاعته أن يقول لي شيئا واضحا عن ذلك العالم المجهول كان :"الآلهة عطشى".

«غاملان"، بطل الر واية، فنان فقير يعيش في باريس مع والدته الأرملة. ذات يوم يجد نفسه عضوا في المحكمة الثورية. وفي الحين يتحول إلى وحش يحاكم الأبرياء ببرودة وقسوة، وعلى عجلة يرسل بهم إلى المشانق المنتصبة في ساحات باريس متوهما أن ما يقوم به "يخدم الثورة والجمهورية" التي قامت على انقاض النظام الملكي. وهو لا يتردد في اصدار حكم بالإعدام ضد أصدقائه وأقاربه إذ لاشيء يبدو له أعلى وأسمى من مبادئ الثورة التي يؤمن بها. بل أنه يرسل إلى المشنقة رجلا بريئا مُتوهّما أنه كان عشيقا للمرأة التي يحبها. وفي النهاية، وكما هو الحال في جلّ الثورات، يصبح القاتل مقتولا، والضحية جلاّدا. وفي النهاية يُسَاق "غاملان" إلى الساحة العامة ليلقى نفس مصير ضحاياه السابقين !

في الثورات التي ذكرت آنفا، يمكننا أن نجد أمثال "غاملان". وقد يكون هؤلاء في البداية طيبين وإنسانيين، وضعاف القلوب والنفوس، إلاّ أن الثورات التي تفتنهم بأوهامها وبأكاذيبها، تحلّوهم إلى مجرمين وقتلة. وقد أبدع أناتول فرانس في رسم صورة لهذا التحوّل الرهيب على لسان إحدى الشخصيات، حيق كتب يقول : "مسكين غاملان ! كان بالإمكان أن يكون صاحب موهبة من الدرجة الأولى لو لم يمارس السياسة". ثم يضيف قائلا :" لقد كان مخلصا وصادقا إلاّ أن المتحجرين أفسدوه...».

وفي "الآلهة عطشى" هناك شخصيات أخرى تجسد العذاب الإنساني في زمن الثورات. و"جولي"، شقيقة" غاملان" من بين هذه الشخصيات. وهي تحبّ أن تتنكر في ثياب الرجال. كما أنها تبذل كلّ ما في وسعها لإنقاذ عشيقها من المشنقة. لذلك هي لا تتردد في تسليم جسدها لواحد من أعضاء المحكمة الثورية. وعندما يعجز هذا الأخير عن إنقاذ عشيقها تهجم على شقيقها الخارج للتو من قاعة المحكمة لتصيح فيه بعد أن تبصق على وجهه :»أيها المجرم! أيها القاتل! أيها الوحش اضربني أيها الجبان احكم عليّ بالشنق يا قابيل أنا أختك".

وهناك أيضا العجوز الطيبة المسكينة التي تبيع أشياء تقليدية منذ أربعين عاما، غير أن رجال الثورة، أصحاب" السراويل القصيرة"، يوقفونها بتهمة "التحريض على السحر والشعوذة في ظلّ الجمهورية اللائكية". وهناك "مارت غوركوت" ، وهي فتاة فائقة الجمال، تصرخ في وجه الثوريين:" عاش الملك!»، بعد أن عاينت قبح الثورة وبشاعتها وفساد أنفس رجالها.
ويقدم لنا أناتول فرانس "بروتو" كشخصية منتصرة للجمال ولملذات الحياة. لذا هو لا يدافع عن الثورة، ولا ينحاز لها مثلما فعل الكثيرون من معارفه، بل يكتفي بمتابعة ما يحدث بلامبالاة، منصرفا إلى قراءة لوكريتاس، شاعر الطبيعة الإيطالي. وفي العربة التي تحمله إلى ساحة المشنقة، هو ينظر إلى رقبة "مارت غوكورت " الجميلة، ويتحسّر على نور الحياة...
أصدر أناتول فرانس رواية المذكورة عام 1912، أي قبل اندلاع الثورة البلشفية بخمسة أعوام. لذلك يمكن القول أنه حَدَسَ مصير الثورات التي سوف تشتعل خلال القرن العشرين. وكانت رواية" الأم" التي مجد فيها مكسيم غوركي نضال البلاشفة قد صدرت عام 1906. إلاّ أن التاريخ أنصف أناتول فرانس، وفضح أوهام مكسيم غوركي. وقد يعود ذلك إلى أن الأول تجنب تمجيد الثورة، وأبطالها، وصانعيها، ليقودنا إلى الجوانب المعتمة التي وسَمَت ثورة رفعت شعار :" الحرية والمساواة والعدالة"، راسما صورا مرعبة لأوضاع مأساوية، ومقدما لنا شخصيات تبدو في ظاهرها قوية، وإنسانية، ومحبة للحرية والعدالة، إلاّ أنها في الواقع شريرة وعنيفة . أما الثاني فقد استند إلى الإيديلوجيا البلشفية المحرضة على العنف الثوري ليبني روايته، مهملا الواقع في تضاريسه المخفية. ولو لم يكن الأمر على هذه الصورة، لما قدم لنا مكسيم غوركي إمرأة أمية، لا تعرف شيئا لا عن ماركس ولا عن لينين، إلاّ أنها تتمكن من ان تصبح قائدة للمظاهرات العمالية التي يشنها البلاشفة. ونظرا للنجاح الهائل الذي حققته رواية "الأم" لم يتردد صاحبها في أن يصبح من المنظرين الكبار لما يسمى ب"الواقعية الإشتراكية" التي ستحول الداعين والمستجيبين لها إلى مجرد أبواق لأجهزة الدعاية البلشفية. أما الذين عارضوها فقد سلطت عليهم أحكاما قاسية، أو هم فروا إلى المنافي للحفاظ على حريتهم وعلى استقلاليتهم.