كان النقب مؤخراً محوراً رئيساً في خطة "إعادة توطين إسرائيل 2040" التي أعلن عنها الصندوق القومي اليهودي (كيرن كييمت ليسرائيل) وتهدف إلى ترحيل الفلسطينيين البدو من صحراء النقب، التي تشكل 60% من "أراضي دولة إسرائيل"، وإسكان مليون مستوطن مكانهم، وإسكان نصف مليون مستوطن في الجليل.
وقد عقد الصندوق تحالفات مع الحكومة الإسرائيلية والجيش وجهات أكاديمية إسرائيلية وقطاعات تجارية إسرائيلية وعالمية لتحقيق الخطة. وأعلن الصندوق أنه يعمل على إنشاء 750 شركة وجعل المنطقتين مركزا لصناعة وتعليم التكنولوجيا المتطورة، واستقطاب 150 ألف يهودي في العالم للهجرة إلى دولة إسرائيل وتوجيههم إلى الجليل والنقب. وفي حال تم تطبيق مشروع الصندوق سوف تصبح النقب العاصمة الإسرائيلية لصناعة الأسلحة خلال الأعوام العشرين القادمة.
وباشرت فروع الصندوق القومي اليهودي حديثا بالترويج لخطة "إعادة توطين دولة إسرائيل 2040" في العالم، واستقطاب أصحاب رؤوس الأموال والتُجار اليهود في العالم للتبرع للمشروع.
وفي مقابلة أجراها موقع (Jerusalem Post) بتاريخ 2 تموز 2020 مع دانييل عطار، رئيس مجلس إدارة الصندوق القومي اليهودي في العالم، تحدث عطار عن أن الصندوق يسعى إلى جمع التبرعات بهدف خلق فرص عمل جديدة للمهاجرين وتشجيعهم على الاستيطان في النقب والجليل.
يعمل الجيش الإسرائيلي منذ سنوات على نقل قواعده العسكرية إلى النقب، حيث توجد المساحة للقيام بالتدريبات والمناورات العسكرية. وتشير معطيات الخطة إلى وجود تحالف بين الصندوق القومي اليهودي والجيش الإسرائيلي الذي يعمل على نقل قواعد "وحداته التكنولوجية" إلى النقب. ووحدة النخبة العسكرية الاسرائيلية 8200 هي وحدة في الجيش الإسرائيلي مختصة بالتكنولوجيا وتعرف بأنها وحدة التحصيل المركزي لجهاز المخابرات. وتتألف الوحدة من أشخاص أعمارهم ما بين 18- 21. في العام 2014، قدمت مجموعة من وحدة 8200 رسالة أعلنت من خلالها رفض المشاركة في عمليات بالضفة الغربية وقطاع غزة. وكشفت الرسالة أن الوحدة تلقت تعليمات للاحتفاظ بمعلومات عن حياة الفلسطينيين؛ معلومات عن التوجه الجنسي للأفراد ومشاكلهم المالية وحتى عن أمراضهم. الهدف من جمع هذه المعلومات هو إمكانية استخدامها لابتزاز الفلسطينيين ومحاولة إسقاطهم. بالإضافة إلى ذلك فقد أنشأ خريجون من وحدة 8200 معدات للحرب الإلكترونية، أكثرها شهرة برمجيات أنشأتها شركة (NSO Group) للتجسس على محادثات تتم عبر هواتف الصحافيين والنشطاء حول العالم. وأشار رئيس مجلس إدارة الصندوق القومي اليهودي عطار في شهر أيار 2020 إلى أن الصندوق تحالف مع خريجي وحدة 8200 منذ ثلاث سنوات في مشروع "تعاون تعليمي".
وتشكل خطة "إعادة توطين دولة إسرائيل 2040" تهديداً لوجود الفلسطينيين البدو في النقب، الذين ما زالوا يواجهون محاولات اقتلاعهم على مدار 72 عاماً وأكثر. وتتضمن خطة المشروع تطبيق آليات الصندوق في الزراعة، ولا يزال الصندوق القومي اليهودي يستخدم خطاب إحياء الصحراء، حيث أفاد عطار في المقابلة مع (Jerusalem post)، أن خطة الصندوق لتوطين السكان في النقب والجليل "سوف تجعل هذه المناطق تُزهِر، وتصبح مراكز لتمكين الابتكار على مدى العشرين سنة القادمة".
ويقع النقب جنوبي فلسطين، ويشكل نحو نصف فلسطين التاريخية من حيث مساحتها، حيث تصل مساحة النقب إلى نحو 6.12 مليون دونم، تشكِّل لنحو %47 من المساحة الكلية لفلسطين التاريخية البالغة نحو 27 مليون دونم. وله شكل مثلث هندسي رأسه في الجنوب على خليج العقبة وقاعدته في الشمال يبلغ طولها نحو 125 كم تصل بين نقطتين إحداهما على البحر الميت في الشرق والأخرى جنوب غزة في الغرب، أما ضلعاه الآخران فهما الحدود الفلسطينية المصرية في الغرب والحدود الفلسطينية الأردنية المحاذية لطول وادي عربة في الشرق.
و تعود تسمية النقب بهذا الاسم إلى أمرين: الأول أنها مشتقة من الكلمة الكنعانية (نجب) أي الأرض الجافة، ويتلاءم هذا المصطلح مع البيئة الصحراوية المعروفة بقلة هطول الأمطار فيها، والمعنى الثاني لكلمة النقب هو الطريق بين الجبلين والمنقبة هي الطريق بين الدارين، وتدل هذه التسمية على أهمية النقب من الناحية الجغرافية الاستراتيجية، فالإقليم عبارة عن منطقة عبور، كما أن النقب يُعرف بأنه بوابة بلاد الشام إلى البحر الأحمر وشرقي إفريقيا. وتعد مدينة بئر السبع أكبر المدن وأهمها في النقب، إلى درجة أن النقب سمي بقضاء بئر السبع.
ويشكل بدو النقب غالبية البدو في إسرائيل الذين يتجاوز عددهم 200 ألف نسمة، منهم نحو140 ألف نسمة في النقب ، و نحو 10 آلاف نسمة في أواسط إسرائيل، و نحو 50 ألف نسمة في شمال إسرائيل. وهناك مركزين بدويين في مدينتي الرملة واللد وفي قريتي الطيبة وكفر قاسم.
وكان النقب في العقل الصهيوني رمزاً لتطبيق معادلة تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها الأصليين، وإحلال اليهود وهو مبدأ الهجرة اليهودية الذي يستتبعه ويرتبط به مبدأ الاستيطان. ووضعت في شهر إبريل/نيسان سنة،2005 "خطة لتطوير النقب" خلال السنوات العشر (2006-2015) وصفها شمعون بيريز، عندما كان نائباً لرئيس الحكومة الأسبق أرئيل شارون، بأنها تعد نسخة ثانية وعصرية من مشروع إقامة إسرائيل.
ويعدّ مخطط "برافر بيغن" من بين أخطر المخططات التهويدية، وهدف إلى السيطرة على 850 ألف دونم من أرض النقب، وتهجير أكثر من 80 ألفاً من أهلها، وتدمير نحو 40 قرية بدوية.
والجدير ذكره أن عالم الرياضيات اليهودي هرمان شابيرا اقترح تأسيس الكيرين كاييميت عام 1884 وعرض الاقتراح على المؤتمر الصهيوني الأول العام 1897) وتأسس في العام 1901، خلال المؤتمر الصهيوني الخامس في بازل، سويسرا. وتمت الموافقة على مهامه في المؤتمر الصهيوني السادس عام 1903. وقد نص قرار إنشائه على حصر استخدام أمواله في استملاك الأراضي أو أية حقوق فيها في المنطقة التي تضم فلسطين وسورية وأية أجزاء أخرى من تركيا الأسيوية وشبه جزيرة سيناء بهدف توطين اليهود فيها بحيث تعتبر هذه الأراضي ملكاً أبدياً لليهود لا يجوز بيعها أو التصرف بها عن غير طريق تأجيرها.
وكانت فيينا المقر الأول لهذا الصندوق. وأنشئت له فروع في مختلف أنحاء العالم، ثم اتخذ من مدينة كولن الألمانية مقراً له. وفي عام 1907 تم تسجيل الصندوق كشركة بريطانية. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى نقل مقره إلى مدينة هاغ البولندية. وفي عام 1922 نقل المكتب الرئيس للصندوق إلى القدس.
كان الهدف من إنشائه جمع التبرعات من يهود حول العالم لتسهيل الاستيطان في فلسطين. وفور إنشاء الصندوق باشر القائمون عليه بوضع صناديق لجمع التبرعات في بيوت اليهود حول العالم، حيث تم وضع ما يقارب المليون صندوق خلال الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. تم استخدام جزء من هذه الأموال كما يدعي القائمون على الصندوق لشراء أول قطعة أرض -50 فدانا- في منطقة الخضيرة في حيفا العام 1903.
ويستهل موقع الصندوق القومي اليهودي التعريف عن تاريخه بعبارة "كل شيء بدأ بحلم". ويدعي الصندوق أنه "أول منظمة خضراء في العالم" وأنه يزرع الأشجار لمحاربة التغير المناخي. وصور الاستيطان بأنه رغبة الصهيونية في "إعادة اليهود إلى موطنهم وإحياء الأرض القاحلة وبعث الحياة فيها"!
ويدعي الصندوق إطلاقه مشروع "البرج والسور" في صيف 1939 والذي تم من خلاله بناء 10 مدن استيطانية جديدة في فلسطين. وكان عدد السكان اليهود في فلسطين حسب رواية الصندوق 650,000 نسمة، توزعوا على ما يقارب 305 بلدات، 230 منها كانت على أراضٍ خاضعة لسيطرة الصندوق القومي اليهودي.
عمل الصندوق بالفترة الممتدة ما بين العام 1901 والعام 2001، على زرع 250 مليون شجرة وبناء أكثر من 200 سد وخزان وسيطر على أكثر من 250000 فدان، أنشأ فيها أكثر من 1000 متنزه. وهكذا استغل الصندوق مشروع التشجير واقتلاع الأشجار الأصيلة في المنطقة لمحو الوجود الفلسطيني والطوبوغرافيا الفلسطينية، وصور نفسه عالمياً كوكالة بيئية ريادية وأول حركة خضراء في العالم.
وكانت حصيلة نشاطاته حتى نهاية عام 1947 امتلاك أراض مساحتها 933,000 دونم من أصل 1,734,000 دونم كان يمتلكها اليهود في فلسطين آنذاك، أي ما يساوي 6.6% من مساحة فلسطين الكلية البالغة 26,305,000 دونم. أعادت الكنيست في مطلع 1954 صياغة البند المتعلق بمنطقة عمل الصندوق فحصرتها في الأراضي الخاضعة لقوانين حكومة إسرائيل. ثم جرى تعديل مهام الصندوق فحولت من شراء الأراضي إلى استصلاحها وتشجيرها والمساعدة على استيعاب المهاجرين الجدد وتوفير فرص العمل والخدمات الصحية لهم.
ويشكل الإعلان عن خطة "إعادة توطين إسرائيل 2040" دليلاً على استمرارية أزمة تهويد فلسطين، من خلال تقصير وقصور الصندوق القومي اليهودي بوصفه من أبرز مؤسسات الحركة الصهيونية العاملة في سبيل طرد الفلسطينيين واحلال المستوطنين اليهود مكانهم. فبعد مضي نحو 120 عاماً على تأسيسه يستمر هذا الصندوق في وضع الخطط وجمع الأموال لاستكمال إنجاز ما لم يتم انجازه من مهام يُنذر عدم الانتهاء من انجازها تهديداً وجودياً يضع علامة استفهام على مستقبل التجربة الإسرائيلية في فلسطين. فاستمرار إسرائيل في حال المراوحة كدولة ناشئة أو في طور التكوين لفترة طويلة يشير إلى عبثية المشروع الصهيوني في فلسطين.
التعليقات