من الأمراض الاجتماعية التي ابتلى بها العالمين العربي والإسلامي "مرض التقديس"، وأعني به تقديس الأفكار والأشخاص. فتقديس الأفكار يتمثل في اعتبار اقوال وأفكار بعض الأشخاص سواء من المفكرين أو السياسيين أو رجال الدين (أحياء أو أموات) نصوصا مقدسة غير قابلة للنقاش والنقد، أو احتمال خطئها أو قصورها. اما تقديس الأشخاص، فيعني اعتبار بعض الأشخاص أناسا منزهين عن الخطأ، وكل ما يصدر عنهم من أقوال وأفكار هي صحيحة، ولا يأتيهم الباطل من بين أيديهم أو من خلفهم. وهذا الداء (أي تقديس الأفكار والأشخاص) من الأسباب الرئيسية التي أدت الى تخلف العالمين العربي والإسلامي، بسبب الإتكاء على أفكار وأقوال اشخاص تجاوزهم الزمن إما بسبب التطور الحضاري الطبيعي، وإما بسبب انتقالهم الى رحمة الله وانقطاعهم عن صيرورة الحياة.

من المعلوم أن التطور الحضاري هو عمل تراكمي ينمو باستمرار، وقد شهدت العلوم والمعارف الإنسانية تطورا هائلا في كل المجالات في السنوات العشرين الماضية بحيث اصبح العلماء والمفكرون اللاحقون (أي الأحياء) أقدر على الإبداع والاكتشاف والإنجاز من السالفين من امثالهم، وهذا لا يعني أننا نبخس العلماء والمفكرين السابقين حقهم فيما انجزوه من إبداعات للبشرية. إن الأمم التي تجهل الطبيعة البشرية وحقائق التاريخ وما يزخر به من تطورات علمية ومعرفية، تجور على نفسها وتحبط جهود اللاحقين من مفكريها ومبدعيها، وتحكم على نفسها بالتخلف الى الأبد. ومن الأقوال المأثورة في تراثنا: "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها". ولكن للأسف الشديد انشغل العرب والمسلمون بالأشخاص عن الحكمة نفسها، وبالتقليد عن الإبداع، وبالأمنيات عن التفكير والعمل.

إن الخلط بين وجوب احترام وتقدير المتميزين والمبدعين وبين الاستغراق في تقديسهم قد أدى على مر التاريخ الى فواجع حضارية وعلمية الحقت ضررا كبيرا بالمجتمعات العربية والإسلامية، وبات من الضروري ان تصبح هذه القضية الأساسية محورا للمراجعات الدائمة والنقاش المستمر والمتجدد. فالإنسان اذا أعجب بشخص ما وافتتن به وقع في أسره من غير ان يشعر، فلا يرى فيه عيبا او نقصا، ولا يتوقع منه خطأ، وقد رأينا من الناس من يفتتن برجل الدين فيأخذ منه العلم الشرعي ويكذب الآخرين من المخالفين له، ورأينا من يعتبر المفكر فقيها، والعالم الشرعي خبيرا في علم السياسة ويعرف فيها اكثر من أهلها. وقد يكون الإعجاب والإفتتان بالذات وليس بالغير، فيصاب المفتتن نفسه بداء شخصنة أفكاره وأنه بات وصيا عليها وليس من حق أحد ان يخالفه فيها او حتى يناقشه ويجادله. يقول الإمام علي (عليه السلام) لبعض أصحابه: "فلا تكفوا عن مقالة بحق او مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق ان أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي إلا ان يكفني الله من نفسي ما هو أملك بعد مني".

لقد فطن مفكرو العصور الحديثة في الدول الغربية الى خطورة التقديس المفرط لفلاسفتهم ومفكريهم الأوائل من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم على التطور الحضاري الغربي، لذلك دعوا صراحة، وبوضوح لا لبس فيه، إلى تجاوز هذه العقدة من دون انكار سبق وخلود وعظمة أفكار اسلافهم العظماء. وفي هذا الشأن يقول الفيلسوف البريطاني "فرانسيس بيكون" (1561 – 1626): يجدر بنا ان ننصرف عن أفلاطون وأرسطو ونكتسح من افكارنا الأصنام والأوهام المزمنة، ليس ثمة إلا سبيل واحد أمامنا هو ان نحاول الأمر كله من جديد وفق خطة أفضل، وأن نشرع في ان نقيم من جديد إقامة تامة صرح العلوم والفنون العملية وكل المعرفة الإنسانية على أساس سليم".

لقد ثبت من سجل الحضارات السابقة وواقع المجتمعات الإنسانية ان تقديس الأشخاص والأفكار يعطل مسيرة الحضارة ويعرقل تطور المجتمعات ويوقف تقدم العلوم والمعرفة، وأن الإنعتاق منه هو القاطرة التي تقود للتطور والتقدم في كافة المجالات. لو طرحنا هذا السؤال في المجتمعات العربية والإسلامية: من يقدس الأشخاص؟ الجواب: نحن من نقدسهم ونضع حولهم الهالات التي لا هم طلبوها، بل اكثرهم لا يستحقونها، ولا يمكننا إنتقادهم او مراجعتهم او تصحيح اخطائهم. هذه في الحقيقة ثقافة التقديس العمياء وفكر المستعبدين. يقول المرجع الديني "السيد محمد حسين فضل الله (رحمه الله): "علينا ألا نعيش عقدة الإنبهار بالآخر او الإنسحاق أمامه، بصرف النظر عن الموقع الذي يملأه هذا الآخر، وألا نخضع لكل ما يقوله على أساس انه الحق، حتى إن كان هذا الشخص يمثل موقعا علميا او سياسيا او حتى قضائيا او ما إلى ذلك، وخصوصا اننا في كثير من تجاربنا الماضية كنا الضحايا لهذه الثقة المفرطة بالآخرين، الذين انطلقوا من حساباتهم الذاتية او السياسية لتكون قضايانا ضحية هذه الحسابات وهذه المخططات".

يجب ان نربي انفسنا على عدم تقديس الأشخاص والأفكار، وان يكون تركيزنا منحصرا في الأفكار ومدى صحتها، وان نفصل بين الأفكار وقائليها، وألا نظلم المفكرين والمبدعين – السابقين واللاحقين – بتقديس او تبخيس في غير محلهما. يقول الشافعي "رحمه الله": رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.