يخطيء من يظن أن السلام سوف يعم ليبيا في القريب العاجل، في ظل المفاوضات بين مختلف الأطراف في جنيف، ولكن سوف تستمر عملية الفوضى إلى ما شاء الله، لاسيما أن القرار فيما يحصل على الأرضي الليبية لم يعد في أيدي أبنائها، بل في أيدي جهات ودول أخرى، من مصلحتها بقاء الحال على ما هو عليه.

أتمنى أن يخيب ظني وتفشل توقعاتي، لكن من يقرأ الأحداث في ليبيا أو على المستويين الإقليمي والدولي، سوف يدرك جيدًا أن الأوضاع في بلد عمر المختار لا تمضي إلى السلام والاستقرار.

في يوم 23 أكتوبر الماضي، ووقعت اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5) على اتفاق لوقف إطلاق نار دائم، برعاية الأمم المتحدة. وينص الاتفاق على "إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا في غضون 90 يوما من تاريخ توقيعه".

رغم انقضاء 77 يومًا من إجمالي التسعين يومًا، إلا أنه لم يخرج مرتزق واحد من ليبيا. وكذلك لم ينسحب عسكري أجنبي واحد، بل زادت أعداد ومعدات الجيش التركي خلال تلك الفترة. وبذلك يكون الاتفاق الذي هلل له كثيرون على المستويين الإقليمي والدولي "حبر على ورق"، وأظنه لا يساوي الحبر أو الورق الذي كتب بهما.

أردوغان "يخرج لسانه" للمجتمع الدولي ويتحدى الجميع، ويستمر في إرسال المرتزقة إلى ليبيا، ولكن ليس من سوريا، لاسيما أنه اضطر إلى نقل بعضهم إلى أذربيجان للقتال ضد أرمينيا، بحجة نصرة المسلمين في إقليم ناغورني قرة باغ.

توصل "الرجل الداهية" إلى منجم آخر للمرتزقة، في دول الساحل والصحراء، فتوجه صوبها، وبدأ في وضع خطط جديدة، تضمن له البقاء في ليبيا إلى ما لانهاية، وفي الوقت نفسه التوسع في مناطق بعيدة، تضع في يديه المزيد من أوراق الضغط، للحصول على مكاسب سياسية ومادية، ومناكفة خصومه، ولاسيما فرنسا ومصر.

تتركز خطة أردوغان التي بدأ في تنفيذها في توقيع اتفاقيات أمنية وعسكرية مع دول الساحل والصحراء، ولاسيما النيجر وتشاد ومالي، بما يسمح له بإقامة قواعد عسكرية وإرسال قوات جيشه إلى هذه المناطق، بالإضافة إلى دعم الميلشيات والجماعات المسلحة هناك، وتجنيد المرتزقة وإرسالهم إلى ليبيا، للقتال بالوكالة إلى جانب قوات وميلشيات ما يعرف بـ"حكومة الوفاق".

في شهر يوليو الماضي، قام جولة وزير الخارجية التركي بجولة في عدة دول أفريقية، منها توجو وغينيا الاستوائية والنيجر، وتشير التقارير الاستخباراتية أنه تم الاتفاق على إنشاء قاعدة عسكرية تركية برية وجوية في منطقة نيامي بالنيجر، بالقرب من الحدود الليبية.

لم يلتفت كثيرون إلى هذه التحركات التركية في منطقة الساحل والصحراء، حتى يتمكن أردوغان من الاستمرار في تنفيذ مخططاته في السيطرة على ليبيا. ويعمل على تنفيذ هذه الخطة البديلة بسرعة كبيرة، حتى إذا أحكمت الأمم المتحدة مراقبتها للأوضاع على الأرض، أو إذا لم يستطع إرسال المعدات والمرتزقة إلى ليبيا عبر البحر المتوسط، يمكن نقلها إلى النيجر ومنها إلى ليبيا، وفي الوقت نفسه تتحول القاعدة إلى مكان لتجميع وتوزيع المرتزقة الأفارقة. ويتم ذلك عبر شركة "صادات" التركية التي تعتبر الذراع غير الرسمية للاستخبارات التركية، وتنشط الشركة في دول مالي والنيجر وتشاد ونيجيريا بصفة خاصة.

لا يهدف التوغل التركي في منطقة الساحل والصحراء، إلى إحكام قبضة أردوغان على ليبيا فقط، بل يسعى إلى دعم التنظيمات الإرهابية هناك، وفقًا لما رصدته دراسة للباحث أحمد عسكر، بعنوان "التمدُّد التركي في الساحل والصحراء وغرب أفريقيا: الدوافع والتداعيات".

وقالت الدراسة: تواجه أنقرة العديد من الاتهامات فيما يتعلق برعاية التنظيمات الإرهابية في الساحل وغرب أفريقيا، وأن جزءاً محورياً من تحركات أنقرة في المنطقة يعتمد على تسليح التنظيمات الإرهابية والمرتزقة، بهدف تعزيز الوجود التركي والسيطرة على الموارد والثروات الطبيعية، وتدعيم تيارات الإسلام السياسي. وقد صَرَّح عدنان تانريفيردي، مالك مؤسسة صادات شبه العسكرية وكبير المساعدين العسكريين سابقاً للرئيس التركي أردوغان، أنه يجب على تركيا دعم التنظيمات الإرهابية ضد ما أسماه إرهاب الدولة في بعض مناطق وبلدان القارة الأفريقية مثل أفريقيا الوسطى ومالي ونيجيريا.

ويشير بعض التقارير إلى أن هناك 229 من كبار قادة التنظيمات الإرهابية من جبهة النصرة و"داعش" قد أرسلتهم أنقرة من تركيا إلى طرابلس الليبية، بما يعني إمكانية انتشارهم في مناطق أخرى في أفريقيا.كما كشف بعض التقارير الاستخباراتية عن إرسال أنقرة نحو 900 عنصر للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" المتمركز في شمال غرب مالي، بهدف تعزيز صفوفه تحت قيادة عبد الحكيم صحراوي. ومن ثمّ، تبدو بيئة منطقة الساحل والصحراء مُهيَّأة لتعزيز العلاقة بين أنقرة ومختلف التنظيمات الإرهابية النشطة في المنطقة التي تشكل تهديداً واضحاً لدول المنطقة ومناطق الجوار الجغرافي، لاسيما شمال أفريقيا، حسبما ورد في الدراسة.

أردوغان قالها صريحة في 26 ديسمبر 2019: "ليبيا إرث عثماني". وصدمت كلماته كثيرين وقتها، لكن ما لم ينتبه أحد إليه، أنه قال أيضًا إن شمال أفريقيا جزء من هذه الإرث وجاء على لسانه، في حديث تليفزيوني موثق بالفيديو ومتاح عبر شبكة الانترنت: "تركيا وبطبيعة الحال لديها محيط حضاري كبير، ويعد البحر المتوسط، وشمال أفريقيا، أحد أهم أجزاء هذا المحيط". وأضاف: "ليبيا هي إرث من العثمانيين، والغازي مصطفى كمال أتاتورك، من الذين أدوا خدمات مهمة هناك كضابط عثماني".

تمتلك تركيا في ظل أردوغان استيراتيجية واضحة وطويلة الأمد لتعزيز نفوذها في مختلف المناطق في المحيط الإقليمي، سواء في سوريا أو العراق أوأذربيجان في قارة آسيا، أو في ليبيا ودول منطقة الساحل والصحراء أو دول القرن الأفريقي، لاسيما أنها تمتلك أكبر قاعدة عسكرية خارج الأراضي التركية في الصومال.

وتهدف تركيا من وراء ذلك إلى الحصول على مكاسب سياسية واقتصادية، ومناكفة خصومها السياسيين، ومنها فرنسا ومصر، وروسيا أيضًا. وتحظى تركيا بدعم أمريكي كبير، رغم ما يبدو ظاهريًا من وجود ثمة خلافات بين أنقرة وواشنطن، لكن الحقيقة المؤكدة أن تدخل أردوغان في سوريا واجتياح الأراضي العراقية من وقت لآخر، ثم الدخول إلى ليبيا، لم يكن إلا بموافقة صريحة من البيت الأبيض والبنتاجون، لمواجهة النفوذ الروسي.