الكتابة عن فلسفة الاتصال مهمة معقدة ومتشابكة. وما كتب يثير الجدل المستمر بين المفكرين. ومعظم ما كتب يفلسف الفلسفة على حساب الاتصال أو العكس. لكن معظمها كُتب تحت مظلة تتراوح بين التقييمات النقدية لوسائل الإعلام إلى المناقشات العامة. ولأن الفلسفة تأتي في مكانها الخاص، وتوطد موقفها من خلال التواصل، فمن المنطقي أن يخضع الاتصال للبحث الفلسفي. حيث تجمع (فلسفة الاتصال) بين تخصصين غامضين، الفلسفة والتواصل. ويقال عادة أن الاتصال يقع على مفترق طرق العديد من التخصصات.
هناك مشكلة تتطلب استكشاف العلاقات بين نظرية الاتصال والمجالات التقليدية للفلسفة، مثل الميتافيزيقا وعلم الوجود، وفلسفة اللغة، ونظرية المعرفة، والفلسفة الاجتماعية والسياسية والأخلاق. هناك العديد من الأمثلة على المفكرين الذين أولوا اهتماما واضحا بالمجال الناشئ لفلسفة الاتصال، من إمبيدوكليس وأرسطو إلى لايبنيز وديوي وهوسرل وميرلو بونتي ولومان وهابرماس، على سبيل المثال لا الحصر.

المشكلة الأخرى هو التشابك الديناميكي بين التخصصات والاختصاص.فقد كان العديد من علماء الاجتماع وعلماء الأنثروبولوجيا والسيميائية واللغويين، فضلاً عن منظري الاتصال، فلاسفة في مرحلة ما من حياتهم المهنية. على سبيل المثال، مساهمة فرديناند دي سوسور في السيميائية ليست أقل من مساهمة (سي إس بيرس)، ومع ذلك يُطلق على الأخير اسم فيلسوف بينما الأول لغوي. هل ينبغي لنا تضمين بيرس وترك سوسور جانبًا؟ من جانب آخر يعتبر مارشال ماكلوهان أمرا مفروغا منه من قبل العديد من علماء الاتصال، لكنه كان أستاذا في الأدب الإنجليزي.

الجدلية الأساسية في الاتصال، كيف يمكن للمرء أن يقرر ما هي فلسفة الاتصال التي يجب أن تكون؟ عند قراءة مقالات دراسات الاتصال فأننا نكتشف إن معظمها تأخذ منحى المراجع الفلسفية من أرسطو وأرندت إلى كيركيغارد أو ليفيناس، إلى جانب بعض مفكري التواصل أو اللغة مثل هابرماس أو فيتجنشتاين . وهناك عنصر مهم للقرار من جانبنا في تقييم مساهمات بعض المؤلفين في دراسة الاتصال وفي تقرير ما إذا كانت ذات طبيعة (فلسفية). بمعنى الخط الفاصل بين ما يشكل فلسفة أم لا. لذلك فأن فلسفة الاتصال مجزأة بين التيارات المختلفة، بعضها يركز على اللغة، والبعض الآخر على التواصل السليم.
نظرية الاتصال وريثة للقضايا الكلاسيكية في تاريخ الأفكار. إذا كانت الفلسفة قد سألت تقليديا كيف يمكن أن تكون المعرفة البشرية بالواقع ممكنة، فإن نظرية الاتصال تخاطب وسائل الإعلام والطرائق والرسائل التي يتبادل البشر من خلالها وجهات نظر مختلفة حول الواقع ويفكرون فيها ويسنونها.

بالمنظور الفلسفي، ومن وجهة نظر معظم اللغويين، التواصل هو استخدام اللغة للقيام به. ندرس التركيب اللغوي بشروطه الخاصة، وندرس الاستخدام التواصلي للغة كمسألة منفصلة. من وجهة نظر أخرى، تنشأ الجوانب الأساسية للغة كجزء من عملية الاتصال، ولا يمكن دراستها بشكل مفيد خارج هذا السياق.

المقدادي وتأويلاته الفلسفية
في كتابه (جدل الاتصال –استقراء الزمن الحقيقي/دار الكتب العلمية –بيروت 2020) يقدم لنا د. كاظم المقدادي رؤيته الجدلية للاتصال، واستقراءاته المستقبلية له في كوكتيل معرفي يمزج بين التاريخ والفلسفة والاتصال من خلال مسيرة البشر. ويضع القارئ بمواجهة التراكمات الزمنية المتناقضة، والتأويلات الفكرية المختلفة التي تصل حد التناحر الفلسفي لمفهوم الاتصال بين الأطراف المتعارضة. وهو جزء من الانقسام التقليدي بين المناهج العلمية الإنسانية والاجتماعية لعملية الاتصال بين مفهومين مميزين للتواصل: إما طريقة تمثيل أو وسيلة عمل. فالعلوم الإنسانية ركزت على الأشكال الرمزية التي يعيد البشر من خلالها تقديم جوانب مختلفة من الواقع لبعضهم البعض كجزء من عملية الإدراك الذاتي والتفكير. بينما أعطت العلوم الاجتماعية الأولوية للتواصل كوسيلة لتنسيق التفاعل الاجتماعي، فضلاً عن نوع من التفاعل في حد ذاته، يغذي جميع أنواع الممارسات الاجتماعية والثقافية والنفسية.

لنعترف إن المؤلف دخل من باب التفسير الفلسفي والتأويلات النظرية الصعبة. وأختار ولوج فلسفة الاتصال كفكر ومعرفة اتصالية مثار جدل مستمر. فالجدل موجود مادام المكان يتغير، والأيدولوجيات تتناحر وتتعصب. لذلك فأن الحقيقة ستبقى في الصندوق الأسود قابلة للتطور والنمو مادام العقل البشري ينتج المعرفة والابتكار.

(جدلية الاتصال) اسم الكتاب الذي يحمل معه ثقل التاريخ والنظريات والأيدولوجيات. بل يشعرنا الاسم بانتماء المؤلف إلى أيديولوجية وتحيزه لها. فالجدلية أصولها إلى هيجل وماركس. وهو يشير إلى الأسلوب الجدلي المعين الذي استخدمه الفيلسوف الألماني هيجل في القرن التاسع عشر الذي يعتمد على سيرورة متناقضة بين الأطراف المتعارضة. وعلى الرغم من اعتراف هيجل بأن طريقته الديالكتيكية كانت جزءا من تقليد فلسفي يعود إلى أفلاطون، فقد انتقد نسخة أفلاطون من الديالكتيك. وجادل بأن ديالكتيك أفلاطون يتعامل فقط مع ادعاءات فلسفية محدودة وغير قادر على تجاوز الشك أو العدم، وفقا لمنطق حجة الاختزال التقليدي إلى العبث.

يمكن القول بأن التخصصات العلمية الاجتماعية المتنوعة وممارسيها يضعون أنفسهم على محور معرفي وسياسي في آن واحد، من الإجماع إلى الصراع. التواصل هو جزء لا يتجزأ من العمل الاجتماعي المستمر للتنسيق والمواجهة، من العمليات الاجتماعية الصغيرة إلى الهياكل الاجتماعية الكلية. لا تزال هناك فجوة واضحة بين التحليل الوظيفي، من سبنسر ودوركايم فصاعدا، والنظرية النقدية، من ماركس إلى مدرسة فرانكفورت إلى الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام، ونظرية ما بعد الاستعمار.

لا أدري إن كان المقدادي يريد إن يكون هيجيليا في أفكاره أم انه استهواء بالاسم. ففي كلا الحالتين مخيّر في الاختيار والانتماء. المهم إن يتسق أفكار الكتاب مع هذه الجدلية في كل موضوعاته التي تناولها في مجال الأسطورة والفكر الديني والفلسفة والتاريخ والاتصال. فالجدلية في الكتابة ليست الاختلاف والتناقض فقط، إنما هي طريقة تفكير ورؤى لتفكيك الأفكار وإعادة صياغتها جدليّا. لقد فعلها المؤلف في بعض الموضوعات، وتركها في بعضها للاقتباس والترجمة. لكنني أعترف انه قام بجهد مميز في تجميع الموضوعات، وجعلها في مسار فكري واضح المعالم والتفسير. هي موضوعات ديالكتيكية علائقية مفسرة بنظرية التواصل بين الأشخاص حول العلاقات والعلاقات الشخصية الوثيقة والتوترات والصراعات والتفاعل بين الميول المعاكسة.

باختصار يريد إن يقول لنا المؤلف مثلما قال ميخائيل باختين بأن الحياة هي مونولوج مفتوح، وأن البشر يواجهون تصادمات بين الرغبات والاحتياجات المتعارضة ضمن الاتصالات العلائقية. لذلك أوضح لنا بسردية علمية التوترات الموجودة في البنية العميقة لجميع التجارب البشرية.

المشكلة المنهجية الأخرى في الكتاب، مثلما هي في الكتابات الفلسفية والاتصالية، تتعلق بقضية علم التأويل، وتفسير العالم من مواقف التأويل المزدوج ومنطق البصيرة. حيث تدرس العلوم الاجتماعية والإنسانية الحقائق المفسرة بالفعل. وهذا ما فعله المؤلف في موضوعاته المزدوجة التأويل، فقد قام بتفسير الواقع الاجتماعي وإعادة تفسيره ضمن النشاطات اليومية للبشر. وشرح المتغيرات التي طرأت على مؤسسات المعلومات والاتصال تاريخيا. كذلك فسر لنا التكوينات المتغيرة للممارسات التواصلية في المجتمع الجديد عبر طريقة غير تقليدية في تأسيس الاستنتاجات والأفعال.

يطرح الكتاب سؤالا جدليا: هل لكل فكر نمط اتصالي؟ هل يتوحد الفكر مع الاتصال؟ ويجيب المؤلف عليه: الفكر، الاتصال، اللغة. والترابط الجدلي بينهما. وهو كلام علمي فيه الكثير من الصحة والمنطق. فالنظريات الحديثة اختلفت في أصل الاتصال. هناك تفسير بيولوجي بأن الإنسان طور الأصوات كأشكال للحركة، وبالتالي تطورت فوق مرحلة الحيوان. تفترض هذه النظرية ما يجب شرحه: كيف أصبح الإنسان، بالتواصل مع نفسه، مدركًا بشكل انعكاسي لتجاربه الخاصة، وتشكيل المفاهيم التي يتم التعبير عنها لَفْظِيًّا في التواصل البشري. وهناك نظرية الشخص والتواصل، حيث التواصل مكون من الشخص. وكذلك للشخص الاجتماعي. وهناك من يعتقد إن السعي لتحقيق السعادة هو دافع طبيعي للإنسان، والرضا التدريجي وتحقيق مثل هذا السعي يعتمدان كُلِّيًّا على التواصل. والافتراض بأن تبادل المعرفة هو الوظيفة الوحيدة للاتصال هو وجهة نظر أحادية الجانب؛ الحب بكل أشكاله، من الأشخاص والأشياء، لا يقل أهمية.

ومن الناحية الفلسفية، هناك أيضًا أساس آخر للتواصل، وهو حاجة الإنسان إلى الحرية، حيث يعتمد التواصل على الحرية لأن الطبيعة التي يجب أن تكمل نفسها من خلال النشاط التعاوني يجب أن تكون حرة أيضًا في مساعيها لتحقيق الذات من خلال الوسائل الاجتماعية.
جدلية الكتاب

بدء أقول بأنني في تقييم كتاب المقدادي لا أقوم بتشريح مقاطع الكتاب جملا وكلمات على طريقة مناقشة الدراسات العليا في البلدان العربية، وبالذات في العراق، إنما أحاول هنا تنشيط فكر القارئ لمضمون الكتاب في الإشارات العامة والرموز الفكرية للفكرة العامة للكتاب. ولمنهجيته وطريقة تصميم المباحث، كذلك أضيف معلومات تتسق مع مضمون الكتاب بهدف فتح أفق التفكير والتحليل والاستقراء. فالكتاب جهد بشري يحاول فتح الغاز الحقيقة للقارئ من وجهة نظر شخصية أو من خلال أفكار الآخرين. قد يخطأ هنا ويصيب هناك. كما كان شأن الكثير من الفلاسفة والمفكرين.

الكتاب يحتوي على ستة مباحث منسقة حسب الموضوعات وتاريخ تطور الاتصال. والهدف منه كما يقول المؤلف في مقدمته (ترتيب عملية الاتصال وأولوياته، وتعميق نظريات الاتصال وتشعباته، وعلاقة الجانب الفيزيائي منها، وهل إن ثورة الاتصال في أصلها خضعت إلى إجراءات الإشارة واتجاهاتها، أم إن أصوات الدمدمة وتموجاتها، إلى محاولات التلفظ بحروف ترمز إلى صور شتى، وصولا إلى أصوات بينة واضحة، وما علاقة إن تكون للبشر أذنان ولسان واحد، ولماذا تعد حالة الإصغاء أهم من استمرارية الكلام). وهي أسئلة مهمة ومثيرة للجدل الفكري والزمني تحتاج إلى مهارة باحث رصين يجيد أدواته المنهجية والمعرفية. وهو الأمر الذي جعله يعترف بأن هناك أسئلة كبيرة، وكثيرة جدا لسبب بسيط هو (إن الاتصال حالة متموجة تتحرك من الداخل وتحرك الخارج معها، ولم تكن يوما خاضعة إلى مفهوم سكوني مشروط بأدوات وآليات معينة وثابتة، إن فلسفة الاتصال جبرية اتصالية فيزيائية، غير جامدة، نابعة من فلسفة الكون المتحرك على نفسه). مما يعني إن الكتابة عن فلسفة الاتصال ليست سهلة، ومغامرة الخوض فيها غير مأمونة الجوانب بدليل إننا مازلنا نشهد معارك فكرية مستمرة وقوية.

فمثلا، لم يسلم أحد الفلاسفة الذي اعتمد عليه المقدادي في تنظيراته وهو الفيلسوف (فرنسيس بيكون) المعروف بأطروحاته حول الفلسفة الطبيعية التجريبية من الانتقاد الكبير حول أفكاره التي تعتمد على الأفكار السحرية عند تطوير طريقته التجريبية، وفكرته بأن الطبيعة كيانًا حَيًّا تسكنه الأرواح، وان الهيمنة البشرية وتطبيق الطبيعة كانت تعتمد في الواقع على روحانيته وتجسيد الطبيعة.
هناك حقا، أسئلة كثيرة، وأسئلة كبيرة، حول جدلية الكتاب وتركيبة الموضوعات والتنافر المعرفي بينها من حيث الموضوعات المتنوعة، كذلك اختيار العناوين، والأسس المنهجية لهذا الاختيار. هناك كوكتيل معرفي للموضوعات تبدو جميلة في شكلها لكنها تحتاج إلى جدل أعمق في التفسير والتحليل، وإلى مقاربات نقدية تستمد رؤيتها من العصر الجديد.

هناك حاجة إلى تعميق موضوع الفيزياء وعلاقتها بالاتصال كمدخل لفهم عناصر التأثير في الفيزيائية الاجتماعية للاتصال ودور التكنولوجيا الحديثة في العملية الاجتماعية. هناك حاجة أيضا لتحليل أعمق عن الذكاء الاصطناعي في عملية الاتصال والتأثير، هناك دراسات اتصالية حديثة تجعله عنصر اتصال مؤثر. بل كنت مستغربا عدم اعتماده على النظريات الاتصالية المعاصرة التي أضافت الشيء الكثير للمعرفة الإنسانية، وفندت توجهات النظريات الاتصالية المثالية. كذلك اعتماده على المصادر العربية القديمة التي أصبحت بعضها من التراث القديم. والمقدادي جدير بنقل المعارف الجديدة للقارئ، وهو الضليع باللغة الفرنسية.

وكما قلت سابقا بأن موضوع فلسفة الاتصال معقد ومتشابك بالرؤى المتناقضة، ومازال في ميدان العلم ينشط بالأفكار الجديدة والمناقشات الجدلية. حيث دخلت تخصصات جديدة كموضوع للتحليل، كعلم النفس في عمليات الاتصال، بما يتعلق في مسألة التفسير أو القياس أو التجربة. كذلك تخصصات علم الاجتماع واللغة والسيميائية وعلم التحكم الآلي وغيرها من المصادر متعددة التخصصات التي تأخذ ببعض نظريات الاتصال التوافقية التي لا تزال قيد التقدم.

باختصار شديد، قدم لنا المقدادي القديم والجديد في مترابطات معرفية، وموضوعات جديرة بالانتباه. فقد حرك لنا حاسة السمع والبصر، وجدّد فكرنا بعلم الفيزياء في الاتصال والذكاء الاصطناعي والشبكية المنفلتة. وتركنا لوحدنا نحدد معنى التواصل وثقافة البشر، بل جعلنا نسأل كما سأل عالم الأنثروبولوجيا كليفورد غيرتز: ما هو الشيطان الذي يعتقدون أنه موجود في الاتصال!