يعتمد مُخرجو الأفلام الكوميدية على تضخيم الاحداث وتكرر الهفوات بصفة ارادية او لا ارادية، ففن الاضحاك والتسلية يعتمد اساسا على تضخيم الاحداث والمواقف والحركات وتحريفها الى درجة لاعقلانية وبذلك تصبح مصدرا للتسلية والسخرية والاضحاك.
ان ما تعيشه تونس من تسارع للأحداث بشكل دراماتيكي حولها الى ما يشبه مسرح الفودفيل حيث أصبحت المأساة التي يعيشها المواطن مقابل استقالة النخب من إدارة حكيمة للشأن العام مدعاة للسخرية والتندّر، وهذا في الحقيقة ليس ابتكارا تونسيا خالصا وانما هو نتاج لارتفاع منسوب اليأس والعنف و السؤم واللامبالاة التي يتولد عنها نوع من السخرية السوداء تجاه النخب والدولة والسلطة بشكل عام تستثمره في الغالب القوى الشعبوية والدوغمائية.
لا يعكس ذلك في الحقيقة، حالة من الترف الفكري والابداع الفني كما هو معلوم في الدول الراسخة في الديموقراطية، والتي تشهد تنوعا في الاعمال الفنية المُرتكزة أساسا على السخرية من الساسة والسياسيين، بل بالعكس هو مؤشر خطير على فقدان كلي للثقة في الفاعلين الذين فقروهم وهمشوا مطالبهم الاجتماعية والاقتصادية، وأضحى بذلك ضمان الفرد للقدر اليسير من عناصر العيش الكريم تقض مضاجع الطبقة المتوسطة كما المترفة ناهيك عن الطبقة الفقيرة التي نزلت الى سديم الفقر المُدقع.
وحتى نظيف حبّة الكَرز على الكعكة كما يقول المثل الفرنسي،فقد استفاق التونسيون مؤخرا على أكبر فضيحة يعرفها تاريخ القضاء وهو تورط اكثر من عشر قضاة بينهم اثنين من اكبر الرتب القضائية في قضايا فساد و التغطية على اعمال إرهابية.
الادهى والامر طبعا هو شبكة العلاقات المتداخلة التي كونها هؤلاء القضاة مع امنيين واداريين واعلاميين بغاية تكوين ملفات ضد الخصوم السياسيين والكسب غير المشروع.
واعتقد ان اهم صراع الان سوف يتشكل حول هذا الملف،وبالفعل بدأت بوادر الحرب الخفية بين رئيس الجمهورية قيس سعيد و رئيس الحكومة و رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي، في التشكل واخذت نسقا تصاعديا بغاية الاستحواذ على الملف وتوجيهه اما الى اتباع مساره القضائي او الى وأده نهائيا.وهذا سيحدده موازين القوى ومدى تمسك الهيئة العليا للقضاء باستقلاليتها وفرض ارادة العدالة.
لا احد يعلم ما الذي جال في بال الفاعليين السياسيين في تونس الى الاعتقاد ونحن في مرحلة انتقال ديموقراطي وانفتاح كوني، بأن السيطرة على القضاء وتركيع الاعلام سوف يضمنان لهم البقاء طويلا في الحكم ووضع اليد على مجتمع شاب ومتحرك كالمجتمع التونسي؟ غير اننا وللأسف تعودنا في تونس على ما يسمى بعمى الألوان، وما يحدث في مجلس النواب من عنف وتهريج يشكل اكبر دليل على عُطلٍ في منظومة التفكير والابتكار والتجديد.
الم يكن من الاجدى، إرساء الهيئات الدستورية وتحرير القضاء من الفاسدين ومقاومة حقيقية للفساد وبناء اعلام مهني محترف والاهتمام بالمشاغل الحقيقية للمواطنين؟ الم يكن ذلك سوف يكسبنا ربما الكثير من الوقت ومزيدا من الدعم الاقتصادي الأجنبي في شكل استثمارات وقروض وهبات؟
ربما كان سيكون لهذه الأسئلة او التجاوب معها معنى، قبل سنوات أي بعد انتخابات2014، لكن الان وفي ظل ارتفاع مؤشرات العجز الاقتصادي وتعمق أزمة الثقة بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة وغياب أسس العيش المشترك بينها، فإننا نحتاج الى عمليات قيصرية لاستئصال الأورام الخبيثة التي علِقت بالمناخ السياسي التونسي، وهذا لن يكون الا بتنقيح القانون الانتخابي ومقاومة الفساد فعليا والحد من الإفلات من العقاب وكحلٍ اقصى، حل البرلمان واجراء انتخابات تشريعية مبكرة.
ان الاستمرار في السير في هذا النهج وبهذه الطريقة المُبكية المُضحكة هو كمن يتصارع مع احد اشرار القطارات في الأفلام الهوليودية حيث يسعى البطل الى التخلص من الأشرار حتى يتمكن من انقاذ المسافرين ولم يبقى امامه الا بِضعة ُامتار لينتهي مسار القطار الى طريق مقطوع. فيسقط الأشرار والابطال والمسافرون جميعا في أعماق المياه.
حين نخسر الكل سيدرك الفاعلون السياسيون في تونس حينها ان لا شيء يستحق ان نتصارع من اجله، لانه بكل بساطة لا يوجد أي شيء...سوى السخرية السوداء التي نتندّر بها على من اخترنا ان يحكمونا. وهذا ما جنيناه على أنفسنا.

كاتب من تونس