العقل المنبثق مصطلح ومفهوم عُنِي به محمد أركون، وتناوله في مواقع وسياقات مختلفة، وركّز عليه في كتابه (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل) وهو كتاب حاول فيه إيجاد مسار آخر للفكر الإسلامي؛ فما مفهوم الانبثاق الذي حاول أركونُ تدشينَه وترسيمه، وسعى لوضع لبناته الأولى؟

قبل الإجابة على هذا السؤال لعلّي أجازف وأزعم، وأقول: إنّ كثيرًا من أفكار أركون ومفاهيمه ومصطلحاته بقيت بعيدةً بعض الشيء عن الفكر العربيّ، والمشتغلين فيه، وهذا شيء لمسه أركون، وأشار إليه في مواطن كثيرة، وربطه وعلّله بسوء الفهم؛ لكن يبدو أنّ الموضوع والإشكال ليس سوء فهم فحسب؛ بل عجز في رسائل أركون، وقصور في مفرداته وتعبيراته، وأفكاره... وهو عجز ضيّق مساحة انتشار تلك الأفكار، وكبّلها، كما أنّه عجز مركّب مضاعف؛ فأركون لا يكتب بالعربية... وتبقى الترجمة عائقًا مهما حاول المترجمون؛ فبرغم أنّ هاشم صالح تولّى ترجمة كتب أركون، وحرص عليها، وتواصل مع مؤلفها إلا أنّ الترجمة تبقى تحويرًا للنصوص الأصلية؛ فضلا عن كون النصوص الأصلية وكاتبها تعاني هي الأخرى في نصّها الأصلي الذي كُتِبتْ به، وهذا ما بدا لي من قراءات كثيرة لكتب أركون وأفكاره؛ فقد بدت لي تلك الأفكار -مع طول تأمل- مبعثرة بعض الشيء حينًا، فضفاضة تفتقد للترتيب والتنسيق حينًا آخرَ، وتضرب في فضاء المجهول أحيانًا أخرى... وقد لمس أركون ذلك -كما أشرنا لذلك من قبل- وعلّله مرة أخرى بكونه مجدِّدًا مختلفًا، يسعى لخلق فضاءات جديدة!؟

أعود لأركون وعقله المنبثق، ومفهومه المرتبك لذلك العقل، وهو عقل أكثر فيه أركون الحديث عن سمات ذلك العقل، وهي سمات أحاول اختزالها فيما يلي:

1. العقل المنبثق عقلٌ يصرّح بمواقفه المعرفية، ويطرحها للبحث والمناظرة، ويرى أنّ لكل مرحلة محدودية معرفية.

2. وهو عقل يحرص على الشمولية، ولا يقنع بالمصادر التي توفّرها لغةٌ واحدة، وهذا يتنافى مع التشبُّث بتفوق أمة أو اتّجاهٍ، أو لغة، أو عصر، أو دين، أو فلسفة.

3. العقل المنبثق يقوم على التنازع بين التأويلات؛ بدلا من العيش داخل طريقة واحدة، والدفاع عنها، وهذا يوسِّع مبدأ الأمة الناجية!

4. يحذّر العقل المنبثق من التورط مجددًا في بناء منظومة معرفية مغلقة؛ لأنّه يسعى للخروج من انغلاق فكري، وانسداد معرفي.

5. يحرص هذا العقل على ممارسة الفكر المعقَّد، الذي يرى الواقع معقَّدًا، ويسعى للتماهي معه، كما يسعى لفسح المجال لكل مستويات التساؤلات والإشكاليات.

ويبقى هدف العقل المنبثق كامنًا في مراجعة العقل الماضي، وما أصّله، ولن يؤدي هذا العقل المنبثق إلى نفي الموروث، ولا إلى هدمه، أو الإعراض عنه؛ إنّه عقل منبثق يهدف لاختبار ذلك العقل الماضي، وتمرير منتجاته على أدوات ومناهج

حديثة، وهذا هو الهدف وحسب.