تُجمِع أدبيات الانتقال الديموقراطي ان التغيير السياسي يمر حتما بمرحلتين. مرحلة التحول الأولى المتسمة بالاضطراب ثم مرحلة ما تُوصف بترسيخ الديموقراطية ونعني بذلك، لا ضرورة ايمان الفاعليين الجدد بالمؤسسات الديموقراطية وانما الاتفاق حول قبول لعبة الديموقراطية ومؤسساتها حتى وان كان ذلك عن مضضٍ.
ولكي يَنجح الانتقال الديموقراطي لا بد وان يتوفر شرطان اساسيان. نُخب تحمل الفكر الليبرالي وتستطبنه قولا وممارسة، ونمو اقتصادي داعم لعملية الانتقال. هذان الشرطان وبكل تجرد غائبان لحد الان عن التجربة التونسية وهو ما يُفسر ربما حالة التخبط التي تعيشها البلاد منذ أكثر من عشر سنوات مما أدى الى الانحراف بالتجربة الديموقراطية الهشة نحو حروب هامشية اضاعت علينا فُرصة تحقيق اهداف الثورة التي نادى بها التونسيون والمتجسدة في شعار "شغل حرية كرامة وطنية".
لا شك اننا وصلنا في تونس الى طريق مسدود بسبب عمى الألوان الذي أصاب الفاعلين السياسيين في البلاد، ومن يزعم غير ذلك هو كمن يريد ان يُداوي المُحتضر بحبات اسبرين.
ولعلنا سنكون رؤوفين ان قلنا اننا مُقبلون حتما على حتفنا اما بسبب جائحة كورونا التي لم تجد لها حكومة المشيشي حلا او بسبب تعطل دواليب الدولة جراء الصراع المحموم بين كل من الرئيس التونسي قيس سعيد ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة على خلفية ما اعتبره الرئيس التونسي خيانة رئيس الحكومة له.
يحدث هذا في وقت ارتفعت فيه نِسبة الفقر المدقع الى قرابة 25 بالمائة في سابقة لم تحصل حتى عقب استقلال تونس في حين تؤكد ارقام وزارة المالية ان شبح الافلاس اضحى يخيم على البلاد وهو ما يعكسه عجز الميزانية الذي تفاقم بنسبة 185.8 بالمائة ليرتفع الى 11.6 مليار دينار وعجز الموازنة الذي بلغ نسبة 10.4 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي...طبعا لا احد اهتم بلك.
عندما تتأزم الأمور جرت العادة ان يجتمع الحكماء والمنظمات والأحزاب لحلحة الازمات خاصة وان كانت هذه الازمات عميقة يمكن ان تهدد السلم الاجتماعي والتعايش المشترك بين المواطنين كما هو الوضع في تونس.
حدث هذا في مناسبات عديدة بعد الثورة خاصة عقب اغتيالين سياسيين، كما تمكن الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي من ابرام بمثابة العقد الاجتماعي مع حركة النهضة الاسلامية تم بموجبه نزع فتيل التصادم بين قوى النظام القديم وحركة النهضة الإسلامية. وهو ما مكن البلاد تجنُب الوقوع في فخ التصفيات السياسية والاقصاء والتقاتل.
الان نحن امام رئيس منتخب بأكثر من مليوني تونسي يرفض ان يعترف بالنخب السياسية والاقتصادية المهيمنة وعلى رأسهم حركة النهضة التي يعتبرها، حتى وان لم يُصرح علانية بذلك، سببا في كل الشرور التي تعيشها البلاد بعد عشرية من حلم الثورة.
غير ان المتابع للشأن التونسي خلال الأشهر الأخيرة، يلاحظ تواتر الاحداث وتسارعها نحو طريق اللاعودة بعد ان انقطعت سبل النقاش والتحاور بين الرئاسات الثلاث، وتحول الفضاء العام من فضاء للنقاش في قضايا البلاد الى فضاء للتسريبات والتسجيلات والحروب القذرة.
ولعل القطرة التي افاضت كأس الحوار هو زيارة الرئيس التونسي، مصر ولقاءه السيسي العدو اللدود للإسلام السياسي وهي خطوة بمثابة دق اسفين بين حركة النهضة الاسلامية و الرئيس قيس سعيد، بل ان الحركة نظرت اليها بمثابة اعلان حرب حقيقية، حرب ترى فيها خطرا على المسار الديموقراطي بل أصلا تهديدا لوجودها ولكيانها.
ان المنعرجات الخطرة والمنزلقات التي يسير فيها الفاعلون السياسيون بسرعة جنونية من اجل البقاء قد يأتي على الأخضر واليابس لأن الحد الفاصل بين الاستبداد والديموقراطية هو خيط رفيع ان فرطنا فيه قد نخلق حالة من الفراغ لا يمكن ان تملأها سوى القوى الشعبوية المتصاعدة التي لا تؤمن لا بالدولة ولا بالديموقراطية حينها فقط ستكون الخسارة اعدل الأشياء قسمة بين كل المشاركين في ضياع الحلم الديموقراطي.
الحقيقة الثابتة الان، هي ان كل طرف يسعى الى مزيد تعفّن المشهد السياسي اعتقادا منه انه في الذهاب بالأزمة الى منتهاها قد يدفع بالفاعلين السياسيين الى إعادة خلط الأوراق والاضطرار الى الجلوس على طاولة التفاوض بشروط مغايرة ربما تكون لصالحه.
وقد يغيب عن الكل بسبب الدوغمائية الطاغية، ان الانتصار الحقيقي للتغيير الديموقراطي، هو في توفير الحياة الكريمة للأفراد وفي إرساء منوال تنموي قوامه التوزيع العادل للثروات ومقاومة حقيقية الفساد ودعم حرية التعبير والاعلام. فإما ان نختار الطريق الأقصر وهذا بأيدينا ان توفرت الإرادة السياسية، و إما ان نسير في منعرجات خطرة غير محمودة العواقب.