كان الاعتراف الأمريكي بمذبحة الأتراك ضد الشعب الأرمني ، قرارا جريئا وصائبا وإن جاء متأخرا جدا . ومع ذلك فالقرار الذي سيجر معه مواقف مماثلة في مستقبل الأيام من دول أخرى مازالت مترددة بسبب مصالحها مع تركيا من الاعتراف بالمذبحة . فالقرار الأمريكي فتح الباب على مصراعيه لإدانات قادمة لتلك المذبحة الوحشية التي مازال أحفاد أتاتورك يرفضون الإعترف بها .

كانت مذبحة الأرمن التي لا أشك مطلقا أنها جرت على خلفية التعصب الديني للخلافة الاسلامية المزيفة التي إدعاها الأتراك طوال عدة قرون من سيطرتهم على المنطقة ، لها محاولات شبيهة قد لايعرف الكثيرون بها ، منها ما جرى في مدينة أربيل والذي تزامن مع نفس فترة إرتكاب تلك المذبحة الرهيبة .

ففي أعقاب الهزائم المريرة التي تجرعها الجيش العثماني بجبهات القتال في الحرب العالمية الأولى ، وأثناء إنسحاب فلول هذا الجيش من العراق مرورا بمدينة أربيل بين عامي 1917-1918 حاول هذا الجيش المنهزم إثارة النزعات الدينية بين أهالي المدينة والتي يسكنها منذ عدة قرون أقلية مسيحية ببلدة (عينكاوة ) وهي إحدى ضواحي مدينة أربيل . وحرضت تلك الفلول الأهالي لمعاونة الجيش المنسحب بغرض إبادة المسيحيين الساكنين في تلك البلدة المسالمة إنتقاما من الانجليز ودول الحلفاء التي هزمت جيش الخلافة ، وكادت الجماهير المخدوعة من بسطاء المدينة أن تهم بهذه المذبحة مما دفع السكان المسيحيين الى الهروب للإحتماء بالشخصية الأربيللية القديرة الملا أفندي في قرية باداوة القريبة من أربيل ، فلجأت عشرات العوائل المسيحية الى قصره هناك ، فيما لاذ آخرون بجامع القلعة الكبير الذي تديره العائلة . وسارع الملا أفندي وابن عمه محمد المفتي الى التصدي لتلك المحاولة اللئيمة عبر إصدار فتوى تقضي بحرمة ارتكاب هذه الجريمة البشعة ، واعلن الملا أفندي فرض حمايته على أهل عينكاوة محذرا بشكل واضح وصريح " أن كل من يلطخ يده بدماء إخوانه المسيحيين سيحاسبه الله يوم القيامة ، إضافة الى أن كل من يقتل مسيحيا سيواجه عقوبته الجنائية وفق القانون " .

وعلى الجانب الآخر تم التنسيق مع العشائر الكردية بالمنطقة لإرسال العشرات من الرجال المزودين بالسلاح للمراباط عند بلدة عينكاوة للدفاع عن سكانها والحيلولة دون تكرار المأساة التي حلت بالأرمن على يد الأتراك في تلك الفترة .

وعرفانا منهم بهذا الجميل فإن رجال الدين المسيحيين في المدينة دأبوا منذ تلك الفترة على إجلال هذا الدور الإنساني لأحد عظماء المدينة وهو الملا أفندي فلم تنقطع زياراتهم الى عائلة الملا أفندي وعائلة المفتي في أربيل في المناسبات الدينية الاسلامية . وكان مشهد جلوس قساوسة ومطارنة المسيحيين الى جانب العالم العلامة رشاد المفتي بديوانه العامر في أربيل منظرا لافتا على الدوام طيلة العقود السابقة الى حين وفاته ، ثم تواصلت أواصر المحبة بينهم من خلال زيارة الديوان الذي يديره أولاده لحد اليوم .

من هذا الحدث التاريخي اللافت نستنتج بأن المذبحة العثمانية ضد الأرمن المسيحيين ، ومحاولتهم القضاء على مسيحيي أربيل كانت من ضمن أجندة خاصة بهذا الحكم المستتر بالاسلام للقضاء على العنصر المسيحي في المنطقة ككل ، مما يفضح سياسة التعصب القومي والديني للأتراك العثمانيين والاتاتوركيين .

وفي السياق ذاته لا يمكن أن نغفل تلك الإلتفاتة الكريمة للملا أفندي حين إستضاف العائلة المالكة العراقية وبينهم الملكة عالية وولي العهد الصغير الأمير فيصل الثاني أثناء حركة رشيد عالي الكيلاني ، حين لجوئهم الى الملا أفندي لحمايتهم ، وقد حصل ذلك على الرغم من أن السلطات قد هددت بإعتقال العائلة الملكية ، لكن الملا أفندي وقف وقفته الشجاعة قائلا " على جثتي ، فليس من شيمنا تسليم اللائذ بنا " مما أدى الى تراجع السلطة عن تهديداتها للعائلة الملكة .

الرجال مواقف ، وكان الملا أفندي هو رجل المواقف . رحمه الله .