في هذه الصفحات نفحات من سير رجال كانوا منارات مضيئة، وسطعوا نجومًا في سماء بلادهم والعالم.


أحد أكبر القادة السياسيين في القرن العشرين، ومَدْرَسة الساسة الجدد.. ابن الفيصل، سليل المجد، وحفيد الأُسْد، ووجه السعد.. ذلك الشامخ الذي كان صورة وعنوانًا لشموخ وطنه، وتاريخه العريق.

تذكر كتب السير والتواريخ أن هناك قادة وساسة لا يتكررون.

تجري القيادة والسياسة في دمائهم فطرة لا مُدارسة، وحنكة لا محاولة، وما سعود الفيصل إلا واحد منهم، وله موعد صدوق مع كتب التاريخ التي ستخط اسمه في الكثير من صفحاتها بحروف من نور.

لا عجب؛ فقد نشأ على يد والده الفذ، وأخذ منه الحكمة والعزم والدهاء، فخاض معترك السياسة منذ نعومة أظفاره، ووقف له العالم احتراماً وإعجاباً وتبجيلا.‏ ولد في مدينة الطائف عام 1940م، وأكمل دراسته الاعتيادية هناك.

وفي الرابعة والعشرين من عمره حاز درجة البكالوريوس من جامعة برنستون بولاية نيوجريسي في الولايات المتحدة الأمريكية من كلية الاقتصاد، ثم وجد نفسه وجهاً لوجه أمام قادة العالم.

التحق سموه بوزارة البترول والثروة المعدنية؛ إذ عمل مستشاراً اقتصاديّاً لوزارة البترول والثروة والمعدنية، وعضواً في لجنة التنسيق العليا بالوزارة، بعد ذلك انتقل إلى المؤسسة العامة للبترول والمعادن (بترومين)، وأصبح مسؤولاً عن مكتب العلاقات البترولية الذي يشرف على تنسيق العلاقة بين الوزارة وبترومين.‏ عُيِّنَ نائباً لمحافظ بترومين لشؤون التخطيط وبين عام 1971 إلى 1974م عُيِّنَ نائباً لوزير البترول والثروة المعدنية.‏ ثم التحق سعود الفيصل بوزارة الخارجية في عهد والده الملك فيصل رحمهما الله.

وعمل إلى جانب وزير الدولة للشؤون الخارجية عمر السقاف. في الثالث عشر من أكتوبر من العام 1975م أصدر العاهل السعودي خالد بن عبدالعزيز أمراً ملكيّاً تم بموجبه تعيين الأمير سعود الفيصل وزيراً لخارجية المملكة العربية السعودية.

واستمر سعود الفيصل وزيراً لأكبر دولة ثقلاً ومكانة واقتصاداً وتصديراً للنفط في العالم لأربعة عقود عاش فيها الفصول الأربعة، وتقلب في أروقة السياسة بكل حنكةٍ ودهاء، وقاد سفينة العلاقات الخارجية مع العالم الغربي الذي تحكمه المصالح واللوبيات والأحزاب السياسية بكل اقتدار وحكمة.

كان سعود الفيصل رحمه الله مدرسةً سياسيةً قائمةً على تغليب المصالح، وفن الممكن، والانعطاف الحذر مع كل المنعطفات السياسية التي كانت تعصف بالمنطقة وبالعالم في كل المراحل من عمره رحمه الله.

لقد تولى الفيصل الحقيبة الخارجية بعد حرب النكسة؛ إذ كانت المنطقة تغلي على صفيحٍ ساخن إذ لم تهدأ لليلةٍ واحدة.‏ اهتم سعود الفيصل بالقضية الفلسطينية اهتماماً بالغا، كما لعب دوراً كبيراً في الجهود التي أدت إلى وضع حد للحرب الأهلية اللبنانية، وبخاصة مع التوصل إلى اتفاق الطائف 1989م، وكذلك دوره في سياسة السعودية الخارجية أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وحقبة الغزو العراقي للكويت، وخلال حرب الخليج التي تبعته وأدت إلى تحرير الكويت، كما أسهم في تأسيس مجلس التعاون الخليجي.

لقد قضى سعود الفيصل عمره السياسي في السعي خلف قضايا العرب والمسلمين، وكان رحمه الله خير من يمثلهم في المحافل الدولية، كما كان -رحمه الله- المهندس لاتفاق مكة بين حركتي فتح وحماس في العام 2007م.

وقد جرى الاتفاق فيها على تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية واحدة، وكان يرى سعود الفيصل بأن اتفاق مكة بين الحركتين يعزز من فرص الخروج بموقف عربي موحَّد يدعم المبادرة العربية للسلام،ورغم الأجواء الإيجابية التي رافقت الإعلان إلا أن التوتر بقي حاصلاً في الحقبة التي تلت توقيع الاتفاقية، وما تبعها من أحداث نتجت عنها سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، مما أدى إلى انقسام بين الطرفين.‏ لقد كان لسعود الفيصل أثر فاعل في حربي الخليج الأولى والثانية، وكان لاعباً سياسياً حاسماً في كل الأزمات السياسية التي عصفت بالمنطقة، ولقد وقف وقفةً قويةً مناهضة للتدخل الأمريكي وغزو العراق، وحذر كثيراً من تبعات غزو العراق. وقال إن: «مجلس الأمن يجب ألا يكون جهازاً يختص بمنح تراخيص الحرب، بقدر ما هو جهاز معني بالبحث عن الحلول السلمية لحفظ الأمن والسلم والاستقرار العالمي الذي لن يتحقق إلا بحفظ أمن واستقرار دولة ووحدة أراضيها بما في ذلك العراق».

كما قال: «إن مجلس الأمن مطالب ببحث موضوع العراق من جميع جوانبه، وحتى في حال صدور قرار من مجلس الأمن يقضي بالحرب لا سمح الله فمن الضروري إعطاء الدول العربية فرصة زمنية أخيرة للوساطة والتدخل».

أحدثَ سعود الفيصل تغييرات سياسية عظيمةً جداً إبان تسلمه لحقيبة الخارجية، وما تَخَلَّقَ أي حدث سياسي بارز إلا وكانت له إسهاماته المؤثرة التي غيرت الموازين للأفضل.‏

وبعد أربعين عاماً من غمار السياسة ترجل الفارس عن صهوة جواده، ولكن التاريخ دون وثباته السياسية، وسجل مناوراته الحصيفة التي باتت منهجاً للساسة من بعده.‏ ولطول شموخه ووقوفه على أحداث العالم عانى -رحمه الله- من آلام الظهر، وعانى في أيامه الأخيرة من مرض باركنسون، وأجريت له رحمه الله عدة عمليات جراحية زاده بعضها تعباً على تعب.

وفي يوم الخميس في 22 رمضان 1436هـ الموافق 9 يوليو ٢٠١٥ انتقل إلى جوار ربه في ليلةٍ مباركة بمدينة لوس آنجلس عن عمر يناهز 75 عاماً من الشموخ والأنَفةِ..

ووصل جثمانه رحمه الله إلى مدينة جدة يوم السبت 24 من رمضان، وصُلِّيَ عليه بالمسجد الحرام، ودفن بمقبرة العدل بمكة المكرمة.