على إمتداد تاريخ الثورات التحررية الكردية تولى قيادتها في الغالب الأعم ، شخصيات دينية أو رؤوساء عشائر كردية بارزة . فمن ثورة الشيخ عبيدالله النهري الكبرى مرورا بثورة الشيخ سعيد بيران ، ثم ثورة سيد رضا درسيم في الجزء الشمالي ( تركيا ) ، وصولا الى ثورة الشيخ محمود الحفيد وإنتهاءا بثورة أيلول التي قادها الشيخ ( الملا مصطفى البارزاني ) في كردستان العراق ، كانت قيادات تلك الثورات المتعاقبة دائما يتولاها رجال دين أو رؤساء عشائر بحكم الطبيعة العشائرية للمجتمع الكردي وتدينه . ومع ذلك لم تخل تلك الثورات من قيادات الصف الثاني من الطبقة المثقفة وشخصيات سياسية إستطاعت أن تثبت وجودها على الساحة .
فإذا أمعننا النظر بتاريخ تلك الثورات سنجد أن هناك كثير من السياسيين ورجال الطبقة المثقفة واكبت الثورات التحررية الكردية منذ بدايات القرن الماضي لعل أبرزهم الأستاذ ابراهيم أحمد ، ثم الزعيم الراحل جلال طالباني الذي قاد الثورة الجديدة في كردستان العراق منذ عام 1976 وهي أول ثورة تخلو قيادتها من رجال الدين ، حيث أعلن الاتحاد الوطني ثورته بعد إنهيار ثورة الملا مصطفى ، وبقيادة جديدة أكثرأعضائه شخصيات علمانية مثقفة .
مع بدء تلك الثورة ، ظهر نجم شخصية سياسية جديدة هو الأستاذ نوشيروان مصطفى القائد الميداني لقوات البيشمركة والنائب الفعلي لزعيم الاتحاد الوطني جلال طالباني .
كان دور الأستاذ نوشيروان مصطفى محوريا في تلك الثورة ، فهو قاد قوات البيشمركة في قتالها المرير طوال سنوات الثورة ضد النظام البعثي ، وفي الجانب السياسي كان هو منظر الثورة . وبهذا الدور ترك بصمة واضحة في تاريخ تلك الثورة حيث قادها أخيرا الى الإنتصار عبر الإنتفاضة الجماهيرية التي إنطلقت في الخامس من آذار 1991 والتي توجت بالنصر وتحرير كردستان من قبضة النظام الفاشي العراقي .
فقد كان نوشيروان وبإعتراف كل المنصفين هو قائد ومهندس الإنتفاضة الآذارية ، فمن خلال قيادته للتنظيمات السرية المنتشرة حينذاك في معظم مدن كردستان ، وكذلك قيادته لقوات البيشمركة المهاجمة لمواقع ومؤسسات البعث العسكرية والاستخبارية ، إستطاع أن يتوج ثورة كردستان بأعظم إنتصاراتها من خلال تحرير جميع مناطق كردستان من خانقين الى زاخو .
تعود علاقتي بالاستاذ نوشيروان مصطفي الى أكثر من ربع قرن ، وتوطدت بعد أن كلفني بترجمة سلسلة كتبه التوثيقية للثورة الى اللغة العربية ، فبدأتها بترجمة أول كتبه ( دوران في حلقة مفرغة ) والذي يتحدث فيه عن المفاوضات التي جرت بين الجبهة الكردستانية والنظام العراقي ، ثم كتابيه القيمين ( أصابع تكسر بعضها ) و( قطف الأزهار على الطريق ) اللذان يوثقان لمراحل الثورة الجديدة .
وعبر السنوات الماضية كنت ألتقيه مرارا عند سفرياتي الى مدينة السليمانية أو في المناسبات التي يتواجد فيها بمدينتي أربيل ، وكان الرجل يحب أن يلتقي بالمثقفين ويتناقش معهم حول مجريات الأحداث في كردستان والعراق والعالم . وتعددت لقاءتنا لعشرات المرات ناقشنا فيها الكثير من الأحداث ، ومن خلالها تعرفت على شخصية هذا الرجل العظيم ومستوى تفكيره وأخلاقه وهواجسه وإهتماماته ومدى إخلاصه لشعبه .
فمن الناحية الفكرية يعد الاستاذ نوشيروان أحد المفكرين السياسيين اللامعين ومنظرا من طراز فريد . أما أخلاقه فلا شائبة فيه ، فقد خلت سيرته السياسية والحزبية من أي تهمة فساد أو إستغلال للسلطة ، وكان صريحا مع الجميع لا يتردد من تشخيص الأخطاء حتى لأقرب المقربين منه ، رجل دوغري بكل معاني هذه الكلمة .
أما هواجسه فإنني أتذكر في إحدى لقاءاتنا أن سألته عن مواقفه المتشددة تجاه إدارة حكومة الإقليم ، خصوصا بعد أن أسس حركة التغيير المعارضة ، وإصراره على مواجهة السلطة وفضح مساويء الفاسدين من أقطاب الحكومة ، فأجابني قائلا " حين كنا في الجبال نقاتل النظام الفاشي ، كانت هناك المئات من العوائل الفلاحية التي تؤوينا ، وكنت أرى بعضهم ينتزع البطانيات من أطفاله لكي يتغطى بها البيشمركة . واثناء جولاتنا العسكرية كنا نلتقط الخبز والتمر الذي يدفنه الفلاحون لنا تحت الأشجار . وخلال سنوات القتال المرير سقط الكثير من رفاقي شهداء بالقرب مني وأصيب المئات الآخرين منهم ، وأنا اليوم أعتبر نفسي مدينا لعوائل هؤلاء الشهداء ولجميع الرفاق الذين ضحوا بدمائهم من أجل ثورة الشعب ، فنحن ناضلنا من أجل هؤلاء ولكي نحقق لهم حياة حرة وكريمة ، ولكن ما نراه اليوم هو تنكر أحزاب السلطة لكل قيمنا النضالية والأهداف التي ناضلنا من أجلها ، ولذلك لا أستطيع السكوت عما يجري من فساد إنتشر في جميع مفاصل السلطة ، وهذا ما أعتبره أضعف الإيمان ".
لقد كان هاجسه الأول والأخير هو تحسين أوضاع شعبه وتحقيق الحياة الحرة الكريمة له ، ولذلك كانت معاركه السياسية تدور في هذا الفلك لايحيد عنها .
نصحه طبيبه المعالج بترك التدخين ، فسأل الطبيب " ولماذا أتركه " قال الطبيب " لأنه سيقتلك ". فأجابه " لو تركته سيقتلني القهر على شعبي "!. وهكذا إستمر في التدخين حتى قضى عليه في النهاية .
قلت في مقال سابق كتبته باللغة الكردية ونشرته بمناسبة وفاته " أن الشيعة مازالوا منذ أربعة عشر قرنا يبكون الإمام حسين الشهيد ، والشعب الكردي عليه أن يبكي أربعة عشر قرنا آخر على وفاة نوشيروان ، لأن نوشيروان ببساطة شخصية سياسية لايمكن بأي حال من الأحوال تعويضه " . فهو عندي آخر الرجال المحترمين من قيادات الكرد .