تؤكد معلومات موثوقة تسربت من داخل وزارة الخارجية الأمريكية، عن طريق موظفة سبق أن عملت في مكتب "كيسنجر" عام 1974م وتولت في أواخر ذلك العام طباعة بعض التقارير السرية له، تؤكد تلك المعلومات أن "كيسنجر" هو صاحب مخطط تمزيق العالم العربي، وضرب المنطقة بعضها ببعض، والعمل على استنزاف قواها الذاتية، والإعداد لتقسيم وحداتها الجغرافية، وقد وضع هذا المخطط يومذاك بصفته رئيسا لمجلس الأمن القومي.
تقول السكرتيرة التي تولت طباعة التقرير أن ما بقي بذهنها منه هو نقاط قليلة، إلا انها كافية لإلقاء ضوء عليه:
1. ينطلق التقرير من تصور أن منطقة الشرق الأوسط التي تضم بالإضافة الى البلدان العربية كلا من تركيا وإيران، هي المنطقة ذات المركز الإستراتيجي الأول في الصراع العالمي، فهو مستودع الطاقة التي ترتبط بها الحضارة إلى أمد طويل، وهو عقدة المواصلات للقارات الثلاث وبينها، وهي أوروبا وآسيا وأفريقيا.
2. يعتقد "كيسنجر" ان البلدان العربية تشكل أربع وحدات جغرافية متمايزة، وهي: منطقة الهلال الخصيب، وتضم كلا من سورية والعراق ولبنان والأردن وفلسطين والجزيرة العربية. والمغرب العربي، ويضم كلا من المغرب والجزائر وتونس. ومصر الوثيقة الاتصال جغرافيا وبشريا ببلدين مجاورين لها ويتبعانها وهما ليبيا والسوادان. وبالرغم من خلافات هذه الدول فيما بينها، إلا ان عداءها لإسرائيل والغرب كثيرا ما يستقطبها، كما أنه كثيرا ما يكون أحد أسباب خلافاتها. وبسبب طبيعة موقعها الإستراتيجي والبترول فإن أوضاعها الاقتصادية والسياسية، وعلاقاتها الخارجية وقياداتها هي شاغل دولي.
3. باستثناء إسرائيل، فإن جميع دول المنطقة تتصف أوضاعها بالاضطراب، وضعف المؤسسات السياسية فيها، القابلة دوما للانفجار. كذلك تتصف بافتقار قياداتها الى الرؤية العريضة وعجزها عن معرفة ومجاراة تيارات التطور الفاعلة. بالإضافة الى أنها تضم أجهزة إدارية فاسدة غير قادرة على ان تمنح شعوبها القدر المعقول من الرضى المولد للاستقرار، وهي بسبب ضعف بنيتها الداخلية معرضة بشكل مستمر للانقسامات والصراعات والثورات، وقابلة للتطرف.
4. يستعرض تقرير "كيسنجر" أوضاع البلدان العربية، فيصف كل بلد بما يلي. وقد شمل الوصف في القرير جميع البلدان العربية، إلا أن هذا ما أمكن تذكره:
سوريا: بلد ذو بنية متطرفة، لا يمكن ضبط نزقه السياسي بغير حكم عسكري.
لبنان: بلد هش التركيب، قابل للتعدد والانقسام.
العراق: بلد ذو ثلاثة أجنحة، يعيقه الجناح الثالث عن الانطلاق.
الكويت: مدينة لا تستطيع أن تستمر وتعيش بغير حماية خارجية.
المملكة العربية السعودية: دولة ذات أجساد متعددة، ولها رأس واحد.
مصر: دولة مستعرة، ومستعرة الفقر والمشكلات.
الجزائر: دولة تنفق من رصيد ثروتها القابل والمشرف على النفاد.
ليبيا: صحراء تحاول ان تلعب دور مدينة.
5. وبعد أن يستعرض تقرير "كيسنجر" أوضاع البلدان العربية الداخلية، يقول ما معناه: اللحمة الداخلية لكثير من هذه البلدان هشة، وأن الوحدات السياسية لبلدان الهلال الخصيب غير قابلة للاستمرار بسبب تعاظم دور الأقليات وتضاؤل دور الأكثرية العربية السنية التي لم تعد أكثرية. ويعترف التقرير أن قيام إسرائيل قد عجل في إنفجار مشكلات الأقليات وفي طموحها الى الاستقلال، لاسيما الأكراد والمسيحيين والدروز الناضجين لإقامة دولة مستقلة. أما العلويين في سوريا فهم يتطلعون الى البقاء حاكمين لسوريا كلها، غير ان الأكثرية السنية قد تضطرهم إلى إقامة دولة خاصة بهم، وهذا أمر محتمل في سياق التطورات القادمة.
6. يقول التقرير أن الأجساد المتعددة للملكة العربية السعودية قد تنفصل في حالتين إذا ما فقدت الرأس الواحد. أو إذا قامت فيها حركة ثورية انقلابية أخفقت في منطقة ونجحت في أخرى. وفي كل الأحوال فإن أي اضطراب جدي يهدد أمن المستودع البترولي في الجزيرة العربية يجب ان يقود أمريكا إلى إجراء خاص جدا وعاجل جدا.
7. ويرى تقرير "كيسنجر" أن لكل وحدة جغرافية من الوحدات الأربع نقطة إشغال. لبنان هو نقطة إشغال دول الهلال الخصيب، ومركز انفجار مشكلة الأقليات. والكويت هي نقطة إشغال الجزيرة العربية والعراق. وليبيا هي نقطة إشغال مصر. والصحراء الكبرى الإسبانية هي نقطة إشغال المغرب العربي. (ملاحظة: هذا التقرير سابق لإنفجار مشكلتي الصحراء ولبنان.). ويعتقد "كيسنجر" في تقريره أن النقطتين الرئيسيتين هما لبنان والصحراء الكبرى، وأن نقطة الكويت تتصل بنقطة لبنان، كما أن نقطة ليبيا تتبع نقطة الصحراء الكبرى وتتأثر بها.
8. وبما أن إنفجار هذه النقاط الأربع (أو بعضها) سيطرح مشاكل كبيرة وكثيرة، فإن على السياسة الأمريكية أن تهيئ نفسها لمتابعة وملاحقة أوضاع متشابكة وخطرة، تفرز معطيات جديدة في المنطقة بأسرها. وقد تكون اكثر تعقيدا، إلا انها أسهل معالجة بسبب أنها بعيدة عن الصراع العربي الإسرائيلي الذي يستقطب القوتين العظميين، ويضع العرب جميعا كتلة واحدة في مواجهة إسرائيل، كما يضع الغرب أمام الخيار الأصعب بين موقفين وسياستين، التخلي عن إسرائيل للعرب والسماح بنمو علاقات عربية اكثر تماسكا وابتزازا وتحديا للغرب، أو قطع البترول ومواجهة النتائج المدمرة المترتبة على ذلك.
9. ويعتقد "كيسنجر" ان سياسة الوفاق قد أبعدت الاتحاد السوفيتي، إلى حد ما، عن منطقة الشرق الأوسط إلا أنها لم تلغ وجوده، وهو قادر على العودة وتهديد المصالح الغربية. ولأن مصير أوروبا مرتبط ببترول الشرق الأوسط فإن سيطرة الإتحاد السوفيتي على هذه المنطقة يعني سيطرته على أوروبا كلها، وهو أمر يثير الفزع. إلا ان حاجة الإتحاد السوفيتي الى القمح، وتحديد الأسلحة الإستراتيجية لتوفير الأموال اللازمة للاقتصاد ومشاريع التنمية، يجعل الولايات المتحدة الأمريكية دائما قادرة على كبح تطرفه، وما لم تتعرض القيادة السوفياتية الحالية لنكسة غير متوقعة، فلا خوف منه في هذه المرحلة.
من اقوال "كيسنجر"
• إن لبنان أصبح عبئا على الغرب لكثرة ما أعطت حريته من أفكار كانت تستعمل ضدنا، لهذا قررت إلغاء هذه الحرية.
• إن النظرة العاطفية لا تليق برجل مثلي يتطلع الى جغرافية العالم من خلال مصالح أمريكا ومن خلال مصالح إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط.
• إن لبنان بلد مثالي لتحقيق المؤامرات، ليس ضده فقط، وإنما ضد كل العالم العربي أيضا.
المصدر: كتاب "لبنان في استراتيجية كيسنجر – مقاربة سياسية و جيو-استراتيجية". المؤلف: نبيل خليفة. الطبعة الأولى 1991م.
التعليقات