فهل من بديل؟


يُختصر مفهوم الأمن في العراق بكلمة واحدة؛ "القوة". بمعنى أن قدرة الدولة العراقية -ممثلة بأجهزة وزارة الداخلية- لديها مُهمة واحدة وهي السيطرة على الوضع باستخدام ما لديها من أسلحة ورجال. المشكلة في هذا المفهوم أنه ردّ فعل على الحدث وليس استباق له. فالوزارة وأجهزتها تلاحق الاحداث الأمنية ولا تستطيع رصدها مسبقاً، ليس لأن الوزارة ينقصها العتاد والرجال، لكن لأن مفهوم الأمن -وما يطرحه من تحديات - تطوّر ولم يبقَ على حاله، بل وأخذ منحى جديد وخطير. في حين بقي فهم الوزارة للأمن على حاله كما كان في القرن الماضي.

عمل وزارة الداخلية أعمق بكثير من فكرة فرض الأمن بالقوة، لسبب بسيط أنه مهما كانت القوة وبغض النظر عن وصفها مفرطة، باطشة، أو قاسية، فلا يمكن لهذه القوة تحقيق الاستمرارية المطلوبة في العمل الأمني، فضلاً عن الاستجابة الموحدة للأحداث.

ولهذا نجد الأمن العراقي مخترق باستمرار؛ فالقوة تتراخى هنا وهناك أو تغفل عن بعض المناطق، أو ببساطة تعجز أو تتعب. فلو وظّفت وزارة الداخلية كل العراقيين لما استطاعت فرض سيطرتها بالقوة على بلد تقترب مساحته من أربعمئة وثمانية وثلاثين ألف كيلومتر مربع.

ولهذا يُصدم العراقيين كل يوم بحوادث التفجيرات وكان اخرها مأساة مدينة الصدر في أول أيام عيد الأضحى ثم تبعها حوادث القتل والاغتيال متمثلة باغتيال أبن الناشطة فاطمة البهادلي. هل تم دراسة الحادثة؟ هل تم تحديد نقاط الاختراق؟ هل حللت الوزارة خارطة الحادث وعدلت استراتيجيتها الأمنية على ضوء المعطيات الجديدة؟ لماذا لم تُحبط العملية؟ أذا كانت الوزارة قادرة على اعتقال المجرمين بعد الجريمة فلماذا تفشل اذنا في اعتقالهم قبل الحادث؟ والأهم من ذلك، هل تم توفيرالأمن؟ بالتأكيد لا. ولكن عندما تفشل القوة بفرض الأمن تبدأ بالتبرير. لتبدأ سلسلة من التبريرات منها مدينة الصدر مستهدفة لكونها ذات اغلبية شيعية أو أن الاستهداف هو نكاية بقيادتها أو أن أبن الناشطة اُغتيل لأن أمه ناشطة وكأن الناشط الاجتماعي جريمة لا تغتفر تماما مثل التكوين العقائدي لمدينة ما.

يبدأ عمل وزارة الداخلية من خلال وضع رؤية أمنية مدروسة تقود نشاطات واعمال اليومية وتتضمن اهداف تسعى إلى تحقيقها. فمثلا رؤية وزارة الداخلية الأردنية تتمثل بـ “مجتمع متميز أمنيا ومتقدم تنمويا” ورغم أن الأردن مرّ بتجارب مريرة من بينها حوادث تفجير في عام 2005 التي طالت ثلاثة فنادق في وسط العاصمة عمان لكن هذه الحوادث لم تتكرر. ليس لأن الوزارة الأردنية فرضت حواجز امنية عقيمة أو ملئت السجون بالضحايا. ولكن "المجتمع المتميز امنيا" يعني أن الأمن مسؤولية جماعية ولهذا تجد أن دوائر الشرطة تقدم خدمات متعددة ولديها تواصل مع الناس وسرعة استجابة.

ترُى من يجرؤ على الاتصال بالشرطة في العراق؟ ومتى تستجيب قوات الشرطة العراقية وبأي كيفية؟ هل تستطيع سيدة مثلا الذهاب إلى مركز الشرطة؟ كانت الإجابة على هذه الأسئلة ومازالت لا. كلما عزلت وزارة الداخلية نفسها عن الناس كلما تحّجمت رؤيتها الأمنية ولم يبقَ لديها أسلوب غير القوة.

أما بالنسبة لوزارة الداخلية الأردنية، فإن المبادرة جزء من عملها، فهي تبادر بحل ومعالجة المشاكل الأمنية بدلا انتظار وقوع الأحداث. بل أن الوزارة الأردنية لديها رسالة أمنية تتمثل بتعزيز سيادة القانون وتقديم خدمات أمنية وتنموية وادارية بدرجة عالية من الكفاءة. لكن خدمات وزارة الداخلية العراقية مازالت بدائية لم تتطور منذ القرن الماضي.

على وزارة الداخلية العراقية أن تبدأ بوضع رؤيتها الأمنية وتحديد استراتيجيتها الأمنية بعيداً عن القوة والحواجز الأمنية فالأمن اليوم علم قائم بذاته يتحقق بالتخطيط والمبادرة لحماية أرواح العراقيين التي كانت ومازالت مسؤولية وزارة الداخلية. فهل تبدأ الوزارة بمراجعة نفسها ولو قليلاً.