ينطلق الإنسان في حياته، يسير في دروبها يدفعُه أمل بأنّ الأفضلَ آت، وبأنّ المنتظرَ سيدفئ الجراح! ويا بئس مَنْ لا يعانقه ضوء القمر!
اِنتظرَ هبوط الليل، وجلس يستمع إلى الصمت، وكان في جلوسه هذا يُثير اِستياء اِبن عمه الذي لم يتمكّن يومًا مِنْ أَنْ يَسمعَ ولَو حتى أنين الشجر وهو يَقطعُها بفأسه، أو توجّع الغزلان وهو يَنحرُها بِمديته، لذلك لَمْ يتقبّل يومًا أن يكون هناك من يقول بأنّ للصمت أصواتًا ونغمات...
«تجلسُ كل ليلة، ترقبُ السماء ولو كانت سوداء حالكة، لا نقطة بيضاء لامعة فيها، تغتربُ عنّا، وتعودُ لتبرِّرَ اغترابك بأنك تهوى صوتَ الصمت؟؟؟ ليال طويلة أمضيتُها أصغي للصمت الذي تقول بأنّه يوصل إليك صوته، لكنّ الصمت بقي أبكمًا لم يتكلّم... كفاك عبثًا واستعلاءً!»
قال ابن العم كلماته ومضى والأرض تكاد تُخسف تحت دوس قدميه، يركُلها من دون رحمةٍ وكأنّه يلعنُها...
أمّا هو، فكان لا يزال في سكرته منتشيًا بِعزفٍ لا يُضاهيه إلاّ عزف السماء! نظر إلى ابن عمه وقد قَفَل؛ أراح رأسه على جذع السنديانة القريبة، تلحّف بأوراق الزيتون الطيبة الرائحة، ربَتَ على الصخرة المجاورة يداعب أوتار القانونِ فيها... ثمّ ابتسمَ، أغمضَ عينيه، ارتحلَ...
كلمات ابن عمّه ترنُّ في أذنيه، لا تؤرّقه ولكنها تزعجُه لأنّه لا يعبثُ ولا يستعلي! بكلِّ بساطة التحمَ هو بالوجودِ حتى تماهى، ولذلك صار قادرًا على سماعِ كلماته وألحانه وحتى أنّاته! وصار قادرًا على محاورته ومناقشته ومساءلته!
التحم بالوجود وتماهى معه ولا يزال على كينونته لَمْ يُغيّرْها، لَمْ يَفقدْها في سبيل تماهيه ولَمْ يتخلَّ عنها، واحتضنه الكون متماهيًا في كينونته الفريدة، فإذا كانَ الوجودُ لَمْ يَحكُمْ عليه لمجرد الاختلاف، لماذا يتابعُ ابنُ عمّه سيْل الاتهامات هذه بالعبث والاستعلاء؟!
«إذا ارتحَلْتَ فلا ترتحِلْ في ما يقلقُ سكينَتَك!»
«خلْتُ للحظة أنّكِ لن تحدثيني الليلة! لن أُقلقَ سكينتي، لكني أفكّرُ في سكينته التي غرّبَها!»
«أحاولتَ أنْ تدلَّه على السبيلِ؟»
«حاولتُ... حاولتُ ولَمْ أنجحْ! لم يُصغِ قط، لمْ يَرَ قط، حتى أنّه لَمْ يشعرْ! كيف يمكنُ لِمَنْ لا يُصغي، ولا يرى، ولا يشعر أن يَسكُنَ إلى نفسه وأنْ يتماهى مع الكون؟!»
«لعلّه يشعرُ باللمس!»
«إذا لمَسَ قتلَ وأبكى! ألمْ تسمعي أنين الزيتون في ذاكَ الكرم البعيد؟ أو نحيب السنديان الشامخ فوق الجبل؟! حتى سنابل القمحِ في السهل وأعلى التل لم تنجُ من النحر والذبح والتزييف! ولم ينجُ منه وحش أو بشر!»
«لعلّه يفتقد إلى مَنْ يفهمُ ألمه. ألمْ تُحاورْه؟»
«بلى. لكّنَه لا يتألم، ولا يَعرفُ له ألمًا إلاّ ما قيل له عنه، حتى بات هو ألمًا كائنًا!»
«لعلّه أساءَ اختيارَ الدرب، وينتظرُ مَنْ يُعيد له رسم المسير!»
«لا أَعرفُ أسرار الرسم... لقد أدركْتُ نورَ القنديل وأشرْتُ إليه أنْ يَتبعَه.»
«لعلّ الضبابَ قد حَجب الشعاعَ المضيء! أَمسِكْ بيده وسِرْ وإياه على خُطى الطريق!»
«ما إنْ أمسكْتُ يدَه حتى غاب الأثرُ! لا النورَ انبعَثَ ولا حتى الرحيق! وضاق النفسُ ولم أعدْ أسمعُ إلاّ البكاء والعويل!»
«أغمرتَهُ بمحبتك؟ أقابلته بودِّكَ؟ لعلَّه في داخله هو الطفلُ الحزين. لعلَّه شَعَرَ بالظُلم فَظَلم، وبالقسوة فَقسى، وبِالقَهر فَقَهر!»
«أتعتقدين أنّه يجترُّ ما مرَّ معه؟ لِمَ لا يَحجُبُ السدودَ عنِ النهرِ الذي في دمِهِ يسيل؟!»
«بعضُ الأنهارِ راكدةٌ بطبيعتها.»
«وما السبيل إذًا؟»
«لعلّك تجدُ الإجابة غدًا! لقد تثاءَبَ الفجرُ وعليَّ الرحيل!»
«أألقاكِ في صمتِ الغدِ الجديد؟»
«تلقاني في شعاع القمر!»
إلى لقاء جديد