بدأتِ العتمة تلفُّ البقاعَ بحنيّة أمٍ على طفلها الرضيع، وكانت وهي تحضن الأشجارَ تمرِّر يدها على فَروَة أوراقها، تربتُ عليها وهي ترنّم لحنًا يتردَّدُ صداهُ الدافئ فوق الغمام وتحت المطر!

وعاد المساء.. (الجزء الأول)لا عبثًا واستعلاءً... لقد عانقهُ ضوء القمر!


مشى كعادته إلى حيث يُسند رأسه ويستكين.
«لا أعلمُ كيف أقطعُ هذه المسافاتِ وكأنَّني مسوقٌ في الحلم، من دون أنْ أتعبَ ولو عييت!»
كانَ ينظرُ من حيث قَعَدَ إلى قريته التي يهجُرها بعد أن يَسكُنَ جنونُ النهار فيها عن التطبيل والزعيق وأحيانًا النهيق، أو التفنّن في أصول الهدم والاحتكار، أو الجري خلف الاستغلال ومصادرة الأفكار، وخلخلةِ بنيانٍ عمار...
لا يعلمُ منبعَ إحساسهِ بأنّ عيونًا ترقُبه، تتَبَّعُه، تلاحِقُهُ... لكنّه لم يحفل يومًا بكل تلك العيون، لأنّه يعلمُ أنَّ من يتبعُ النورَ وقد نبذَ القيودَ محسودٌ ومرصود...
كانت العيون التي يشعر بها هي عينيّ ابن عمّه، الذي شاركه المخدَّة ذاتها في الصِّغَر، ووقعَ مثله عندما كانا يجريان خلف الكرة في «الصليخِ» بينَ الصخورِ، ورفضَ الطبيبُ معاينتهما لأنْ لا دواء عنده وقد غَفَلَ عن الداء...
كانَ ابنُ عمّه يترقّبُه عند اقتراب الليل وهو يتسلّل بهدوءٍ بعيدًا عن القرية، ويظل يتتبّعه بعينيه حتى يصلَ وجهتَه، إذْ توقّف عن محاولة السير على خطاه لأنّ المسافة أضنَتْه وأتعبتْه! ومن حيثُ هو يظلُ ينظرُ وينتظرُ ساعةَ تسلّل الفجر وهو يكتمُ غيظه وغضبه ونقمته... على هذا العائد السعيد...
أراح رأسه على جذع السنديان، وتلحّف بأوراق الزيتون، وتوجّه بنظره نحو السماء... ولأوّل مرة يتنبّه إلى أنَّه كلما لاحَ بارقُ ضياءٍ في المدَدِ الأسود اِنطفأ النور في بيت من بيوت القرية... ما هذا التناقضُ العجيب؟! لمَ لا نتمثّل بضوء القمر؟؟؟ وما السبيل؟؟؟
«لعلّك تجدُ الإجابة غدًا! لقد تثاءَبَ الفجرُ وعليَّ الرحيل!»، وها هو الغدُ ينتظرُ معه شعاع القمر...
«أيُّها النائم السعيدُ استيقظْ!... أشرَقَ القمر!»
«ها قد أتيتِ!...»
«أجل... أتبيّنتَ الإجابة؟!»
«حدّثتُ نفسي أنْ أعودَ إلى الجذور، إلى الملامح الأولى، إلى الطفولة... لم أجدْ ألمًا عاناه وحيدًا، فنحنُ كما قَسمْنا لُقمة الخبز بيننا قَسمْنا الألم، كما تَشاطرْنا الفرح تَشاطرْنا الوجع، كما نشَدْنا الوصال نشدَنا الهجرُ... بَسمْنَا معًا ودمَعْنا، أُخِذَتْ منّا ألعابُنا معًا، عُبِّدت مسالِكُنا بالأشواكِ معًا، قُصِفتْ مدارسنُا معًا، حُرِقتْ كُتُبنا معًا، صودرَتْ أقلامُنا معًا، قُيّدتْ مداركُنا، أنماطُ ملابِسنا، أماكنُ تحرُّكِنا، عباراتُنا، جُمَلُنا، حتى أفكارنا أرادوها لنا قوالبَ تَستَنسخُ ما يفكِّرون... لَمْ أعرفِ المحبةَ أكثرَ منه ولا هي عرَفَتْني أكثر... لذلكَ لا أعلمُ كيفَ يمكنُ أنْ أتبيَّنَ الإجابة!...»
«مَنْ منكما اشتاقَ إليها أكثر؟»
«ما هي؟»
«المحبة!»
«أنا!»
«لماذا؟»
«وجدْتُها في كلِّ ما أنا عليه ووجدتُها في كلَّ ما أتوقُ إليه!»
«وهو؟!»
«وجدْتُ دفء النورِ، وخير العطاء والأخذِ، وجِنانَ الحريّةِ، وروضَ السكينةِ، ومعالمَ السبيل، والحقيقة!»
«وهو، لماذا لَمْ يشاركْكَ الشوقَ وقد تشاركتما الضدّين؟!»
«هو جَسَّمَ المحبّةَ ونحتَها تمثالاً مِنَ الرخامِ! جعلَ لها محرابًا تُقدّم له الأضاحي وتُضاء له الشموع وتصدحُ في محيطِه الأناشيدُ، وألزمَها رداءً لا يبدِّلُه لها في صيفٍ أو شتاء! ومع أنّه يدّعي أنّه كرَّمها، إلاّ أنّه سجنها في ما لا يشبهها؛ نزع منها الدفء وضمّنها الصقيع، أطفأ شعلتها عندما أوقد الشموع، أخرس صوتها عندما صدح بالأناشيد! والأنكى أنّه نصّب نفسه حارس المنحوتِ، وحارس الحجر والبشر ودانتْ له القرية!»
«وأنتَ؟ لِمَ لَمْ تتبعْهُ وتعلنْ له الولاء؟»
«لأنّ النهر الذي في داخلي يتدفّق بالحياة! ولأنّ المنحوتَ...»
«لعلّك تُكملُ الإجابة غدًا! لقد تثاءَبَ الفجرُ وعليَّ الرحيل!»
«أألقاكِ في صمتِ الغدِ الجديد؟»
«تلقاني في شعاع القمر!»