ما كنا نظنه خيالاً علمياً في السابق أصبح اليوم حقيقة علميّة، وما كنا نظنّه جماداً دبت فيه الحياة، وما كنا نظنه بلا عقل يوشك أن يتفوق على العقول البشرية. وخلال السنوات الأخيرة بدأت محولات التقنية الأولى للدخول إلى العقل البشري، والتواصل معه بشكل مباشر.

سينهمر مطر التكنولوجية الرقميّة المعطلة للنظم القديمة على العالم بكثافة كبيرة، في حين تعمل إبداعات مثل تحليلات البيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وإنترنت الأشياء، والطباعة الثلاثية الأبعاد، والواقع الافتراضي، على تغيير الكيفية التي تعمل بها المجتمعات والاقتصادات.

وفي الحياة، ستعرف التقنية بماذا نفكر، وبماذا نشعر، وكيف هي صحتنا اليوم، والأمراض التي سنتعرض لها في المستقبل، وماذا يسعدنا وما الذي يقلقنا. وتخبرنا التقارير أن التطور الطبي أصبح يضيف خمس سنوات جديدة لعمر الإنسان في كل عقد، لذلك سيصبح سن التسعين عاماً قريباً هو الستين، ولكن العراقي، مع الأسف، غير مشمول بمكرمة العلم لأنه خارج جاذبية الأرض؟!

ما يجري اليوم في عالم نشوء الدول هو البداية الأولى لإحلال شركات الرقمية محل الدولة، وهزيمة السياسة المدججة بالسلاح والأيديولوجيات المتشحمة بكريستول الزمن أمام الاقتصاد المتنوع بالسليكون والرقائق، والمتخم بمليارات الدولارات. أنه عصر الاستثمارات العابرة للحدود والدول، وسيطرة المال الرقمي على مال النفط والغاز والسلاح والتجارة التقليدية. ومرحلة انتهاء "طنين" الدول الكبرى وهيمنتها التقليدية. وزوال الدول الخاملة من خرائط الازدهار والتطور، حيث الزمن الحقيقي للدجاجة التي تبيض الذهب في الواقع، وليس في الخيال الشعبي!

أنظروا للأرقام الفلكية المرعبة؛ فقد احتلت الصين المرتبة الأولى في تصدير سلع التكنولوجيا العالية إلى العالم في أول 10 أشهر من عام 2020 (720 مليار دولار أمريكي)، يليها الاتحاد الأوروبي (316.1 مليار دولار أمريكي) والولايات المتحدة (207.4 مليار دولار أمريكي) وجمهورية كوريا (137.8 مليار دولار أمريكي).

وما يستثمر اليوم في الذكاء الاصطناعي عالمياً يفوق ما يستثمر في التنقيب عن النفط. ويتوقع أن يضيف الذكاء الاصطناعي في عام 2030 إلى الناتج الإجمالي العالمي أكثر من 15 تريليون دولار، أي أكثر من 10 أضعاف مبيعات النفط عالمياً. وهذا ما كان يحدث لولا تيقنهم الكبير بأن "نفط المستقبل" هو البيانات وشرائح السيلكون.

بالمقابل ستتغير الحياة بتقاليدها وقيمها مع نشوء الدول الرقميّة حيث سيحصل الأنسان على خريطة الهندسة الوراثية الخاصة به مخزنة على شريحة صغيرة على هاتفه الجوّال، ليتم من خلالها تَشخيص جزئي أو كلي على كل العلامات الحيوية لجسده.

وعندما يستيقظ من النوم سيستقبل رسالة على هاتفه توضح له وضعه الصحي، وما إذا كان بحاجة لكشف طبي، وسَيجد الموعد مع الطبيب قد تحدّد سلفًاً. وعندما يذهب إلى "السوبر ماركت" سيقوم هاتفه الجوال بمسح كل سلعة يضعها في عربة التسوق، ويصدر فورًا إشارة تُنبهه للسلع التي لا تتناسب مع صحته.

التحدي الأكبر، هو إعادة هندسة المستقبل، حيث لا خيار أمام الساكن العربي في هذا الكوكب، إلا اكتشاف هذ اللغز الرقمي، والتفاعل معه بطريقة علمّية، تمحى فيه أميّة الأبجدية الرقميّة، وتناقضات البيئة العربية، وثقافة القبائل والطوائف.

الواقع يقول لنا؛ ليس هناك خيار سوى امتلاك مفتاح المستقبل لدخول عالم توديع الدولة الخاملة والمريضة، واستقبال دولة الشركات الرقمية العملاقة، والتكيف مع المستقبل، وليس البقاء في قائمة الأموات!

ما يجري في دولنا إنها تعيش "كسلة" مزمنة، وشخير أجش، ونعاس مفرط خارج منظومة تطور العالم، بسبب ارتخاء عضلات الدول في مختلف الميادين، وانقطاع تنفسها الانسدادي للحرية، وعدم تقبلها لأدوية صنع الحياة الجديدة، مما تسبب في تصلب شرايينها وتشحمها بدهون التخلف، واضطراب في مؤسساتها، وجعلها تستهوي ركود الواقع، والنوم في كهف الماضي. أنه الشعور بتأرجح الزمن بين جمود الماضي وآفاق المستقبل المفتوحة حسب تعبير أينشتاين.

انتبهوا أيضا، الرقميّون قادمون بقوة إلى بلداننا بعد سيطرة التقنية المتقدمة على نظام الحياة اليومية، وبشكل أكبر مع تلك الحواسيب المُحسنّة والمتطورة في المكاتب والهواتف، والآلات المُعقدّة في المصانع، حيث سيبدأ عالم الأنسان المعرّف بالرقم؛ سيختفي الاسم التقليدي، ويصبح الرقم أداة لمناداة الصديق؛ "شلونك عيني 22"!

[email protected]