ومن أعلام صحاري جزيرة العرب
الدهناء معشوقة العرب ومربع قطعانهم وموئل أنعامهم فكم سعدوا برمالها الحمراء ولذلك سأورد لها مقالاً خاصاً هنا
والدهناء عبارة عن كثبان هائلة من الرمال تسمى (عروق) وقد قال عنها ياقوت الحموي: الدهناء سبعة أحبل في عرضها بين كل حبلين شقيقة وطولها من حزن ينسوعه إلى رمل يبرين وهي من أكثر بلاد الله كلأً مع قلة الغذاء والماء وإذا أخصبت الدهناء ربَّعت العرب جميعاً لسعتها وكثرة أشجارها . انتهى كلامه
والدهناء تقع في قلب شبه الجزيرة العربية من جهة الشرق ويعود لونها لكثافة أوكسيد الحديد فيها وأشهر عروقها عرق الثمام وعرق الرويكب.
وقد تمت دراسة صحراء الدهناء لأول مرة بشكل منهجي في عامر١٩٨١م حيث تمّ استكشافها من قبل هيئة المساحة الجولوجية السعودية ومن أشهر نباتاتها السعدان والعرفج أما نبات السعدان فقد ضربت العرب فيه المثل لجودته فقالت: مرعىً ولا كالسعدان. وفي منعرج الدهناء الذي هو (سقط اللوى) في أحد الروايات افتتح به أشعر شعراء العرب أشهر قصيدة عربية ألا وهي معلقة امرؤ القيس فقال:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلٍ
((بسقط اللوى)) بين الدخول وحوملِ
أما الأعشى (صناجة العرب صاحب منفوحة) فقد ترنم ببيتٍ يزخر بالجمال الفائق فقال:
يمرون بالدهناء خِـفَـافٌ عِيَابُهُمْ
ويخرجن من دارين بُجْرُ الحقائِبِ
أما ذو الرمة ابن الدهناء فقد شقشق الكلام فيها شقشقة الجمل الأرحبي كيف لا والدهناء عشقه الأوَّل وهو كما هو معروف عنه شاعر الفلوات والقفار وشاعر العشق والحب العذري المُـطْـرِبْ فقال أبياتاً من قصيدته الشهيرة والتي مطلعها:
يادار ميَّة بالخلصاءِ فالجردِ
سُـقْيَـا وإن هُـجْـتِ أدنى الشوقِ للكمدِ
ثم انبرى واصفاً المطر إذا ألقى بِـعَـاعَهُ وحطَّ بِـجِرَانِه على أديمها النقيّ
من كلِّ ذي لَـجَبٍ باتت بوارِقُـهُ
تجلو أغرَّ الأعالي حالِكَ النَضَدِ
مُـجَلْجِلُ الرَعْدِ عَـرَّاصـاً إذا ارتجست
نَوْءُ الثُّرَيَّا بِهِ أو نثرَةُ الأسدِ
أسقى الإلهُ به ( حُزوى) فجاد بِهِ
ماقابل ( الزُرْقَ ) من سهلٍ ومن جَلَدِ
ثم يسترسل متغزلاً بميَّة ويقف قليلاً في الإشادة بممدوحه فيقول:
حنت إلى نَـعَمِ الدهنا فقلت لها
أُمِّـي ( هِـلَالاً ) على التوفيقِ والرَشَدِ
الواهبِ المائةِ الجرجورِ حانيةً
على الرِبَـاعِ إذا ماضُنَّ بالسَّـبَدِ
فهنا ذكر أن أجود النَـعَم وخيار الإبل هي رعايا الدهناء. ولمكانة الدهناء في الوجدان العربي بلغ بهم أن أطلقوا إسم الدهناء على بناتهم فهذه الدهناء بنت مسحل الشاعرة العربية في العصر الأموي زوجة رؤبة العجاج الراجز المشهور الذي قد يكون أشهر راجز عربي في التاريخ المدون وقد أخذ علماء اللغة العربية منه كثير من أحكام اللغة.
والشاعر ابن سنان الخفاجي الحلبي وصف ليلة قضاها في الدهناء فقال من قصيدة له:
عسى ( ليلةَ الدهناءِ ) تسري بُدُورُهَا
فقد غاب وآشيها ونامَ سميرها
وبَدَّدَ حَـرُّ الشوقِ شمل نسيمها
عَذِيريَ من وَجْـدِي بكم وعذيرها
أقول لمغرورٍ سرى في طِلَابِهَا
وماقَتَلَ البيداءَ إِلَّا خبيرها
والصحراء العربية عامة بحكم تناقضات أوضاعها وتقلبات أحوالها كغيرها من أمور الدنيا إلا أنها خير من يمثل جدلية الحياة وصيرورة أمورها التي أبدع في شرحها فيلسوف التاريخ هيجل بشكل ناصع وواضح يدركه كل من عاش بين رمالها فإذا أخصبت ظننت أن الحياة دائمة لا تزول وتيقنت باطلاً بخلود السعادة واستمرار المتعة وثبوت الرخاء إلا أنه سرعان بعد الإجتماع والأنس ما تعصف رياح الصيف دون مناهم قاطعةً حبل سرورهم فكأنها اختصار لأوضاع الحياة المتتابعة على الإنسان فلذلك كان العرب الأوائل خير من فهم تعاقب الأيام وتقلب حدثان الزمان ولذا رأينا أشعارهم وآدابهم تعجّ بتفسير مآل البشر مهما بلغوا من المجد ولاعجب فهي البيئة الداعية للتأمل الحاثَّة على ملامسة الواقع بكل تجرد وكأنَّ أصحابها أُصْـطُفُـوا واختيروا بعناية لكي يكونوا أقرب الناس إلى الفطرة السويّة.
التعليقات