تحرص التقارير الإعلامية التي تتناول الأحداث الجارية بين الفلسطينيين والاسرائيليين، على الاشارة إلى أن شهر رمضان يشهد عادة إشتباكات وتوترات بين الجانبين،؛ وهذا يعني أن العنف المزمن في هذا الصراع ليس مفاجئاً، ولكن المفاجىء أن تتكرر ردود الأفعال والتصرفات من الجانبين بدون أي محاولة لتفادي هذه الأزمة السنوية المتكررة، لاسيما أن التزامن بين شهر رمضان وعيدي الفصح والقيامة للمرة الأولى منذ نحو ثلاثة عقود، كان معروفاً من قبل، حيث يفترض أن التوترات حول الأماكن المقدسة كان متوقعاً بنسبة كبيرة، وكان يتطلب إجراءات إحترازية ووقائية تحول، أو على الأقل تخفف من إحتمالية تحول أي حدث إلى أزمة كبيرة تضاف إلى مصادر وأشكال معاناة الجميع في منطقتنا والعالم مما يدور عالمياً من أزمات كارثية.

ما أقصده من الاجراءات والسياسات الوقائية ليس أمنياً بالمرة، بمعنى أنني لا أقصد معالجة إستباقية بحصر الأمر في الشق الأمني الاسرائيلي بطبيعة الحال، ولكنني اقصد منع أي سلوكيات "استفزازية" من الطرفين مهما كانت بساطتها لأنها بالنهاية تتحول إلى كتلة لهب تتسبب في إراقة الدماء وتوسيع دائرة العنف المتبادل، في سيناريو متكرر يستغرب المرء حدوثه بنفس الوتيرة والخطوات ويقود إلى النتائج المدمرة ذاتها على كل مايبذل من جهود لتغيير حالة العداء والانتقال إلى سلام اقليمي حقيقي.

اللافت في الأمر أن هذا السيناريو المتكرر لم يسفر ـ حتى الآن ـ عن أي دروس يمكن تعلمها في تفادي الأزمة المقبلة في الأماكن والتوقيتات نفسها، لاسيما أن الهدف معروف مسبقاً وهو توفير الأمن وضمان حرية العبادة للجميع، واعتقد أن هذا لن يتحقق سوى من خلال التعاطي مع الأوضاع في القدس الشريف وفق سياسات وأفكار وبدائل وحلول مختلفة عن تلك التي تتسبب في أزمات متكررة.

أعتقد أن ضمان عدم الإخلال بالأوضاع القائمة في المناطق المقدسة على الأقل في الفترة الراهنة التي تشهد ظروفاً إقليمية ودولية حساسة للغاية، كان ضرورياً لتفادي الوصول إلى التصعيد الحالي، حتى لايتكرر المشهد المأساوي السنوي المزمن، مع كل ماينطوي عليه ذلك من خسائر وتبعات سياسية وإستراتيجية تدفع بالعلاقات بين العرب و إسرائيل ـ شعبياً على الأقل ـ إلى الخلف مجدداً.

في ضوء ماسبق، من الصعب إنكار الحقيقة القائلة بأن من الصعب على أي دولة عربية، ولاسيما تلك المعروفة تاريخياً بدعمها للشعب الفلسطيني، والإكتفاء بمتابعة مايجري بين الفلسطينيين والاسرائيليين من أحداث دامية من دون رد فعل سياسي لأن الأمر لا يتعلق فقط بمواقف تاريخية وإستراتيجية ثابتة لهذه الدول، وهي مواقف معلومة للجميع، بل يتصل أيضاً بخطورة الصمت في مثل هذه الأوقات، مع كل ما يعنيه ذلك من منح فرصة ذهبية للمزايدين والمتربصين بالترويج لقائمة طويلة من الاتهامات الجاهزة لقادة هذه الدول وشعوبها، وإن كان ذلك كله لا يحول دون ضجيج هذه المزايدات وبنفس وتيرة تكرار هذه الأزمات.

وسط هذه الأزمة، تتسلط الأضواء بشكل كبير على موقف دولة الإمارات بشأن أحداث القدس، ورغم أن الدبلوماسية الإماراتية تتحرك وفق ثوابت محددة وواضحة، فإن البعض يحاول الصيد في المياه العكرة واستغلال الأزمة، بل والمتاجرة بها، لتحقيق مآرب أخرى، وهذا ماتدركه الإمارات جيداً وتتعامل وفق القواعد والمبادىء والقيم التي تنطلق منها سواء حيال القضية الفلسطينية أو غيرها من القضايا الاقليمية والدولية.

موضوعياً، لا يستطيع أي مراقب سوى التعبير عن الإحترام والتقدير لرد الفعل الإماراتي إزاء أحداث القدس، حيث تعاملت دولة الإمارات وفق الأدوات والآليات المتعارف عليها دبلوماسياً، لاسيما أن هذه المرة تختلف عن أزمات سابقة، بالنظر إلى وجود سفير إسرائيلي مقيم لدى الإمارات، ما يوفر لها التعبير عن وجهة نظرها وموقفها في إطار القنوات الدبلوماسية المتاحة لديها، والمسألة هنا لا تتعلق سوى بحرص الإمارات الشديد على الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني من خلال علاقاتها الرسمية مع الجانب الإسرائيلي من دون أن ينال ذلك مما تحقق من إيجابيات تتراكم على صعيد العلاقات الإماراتية الإسرائيلية.

المنطق يقول أن الجانب الإسرائيلي لا يفترض أن يكون متفاجئاً من احتجاج الإمارات على مايحدث في القدس، فثوابت الإمارات ومبادئها ليست جديدة، وتعبر عنها باستخدام قنوات دبلوماسية بعيداً عن الضجيج الإعلامي، فالإمارات قد اختارت منذ توقيع الإتفاق الابراهيمي للسلام مع إسرائيل، التفكير خارج صندوق البدائل التقليدية والتعامل بواقعية مع الحقائق الجيوسياسية والجيواستراتيجية القائمة، وبالتالي لايبدو منطقياً أن تصمت على مايحدث بين الفلسطينيين والاسرائيليين ليس لأن القضية الفلسطينية بأكملها تمثل موضوعاً مركزياً في السياسة الخارجية الإماراتية، ولكن أيضاً لأن هذا المستوى المتكرر من العنف المتبادل يهدد الجهود التي تبذلها الإمارات من أجل بناء شرق أوسط خال من العنف وقائم على التسامح والتعايش بين جميع الشعوب والأديان، فضلاً عن أنه يضر بإسرائيل نفسها ليس فقط على مستوى "الصورة"، ولكن على مستوى المستقبل والرغبة المفترضة في بناء سلام حقيقي مع الشعب الفلسطيني وبقية الشعوب العربية.

ليس هناك جديد إذاً في الموقف الإماراتي الداعم والمساند للقضية والشعب الفلسطيني، والجديد هو ايصال صوت الإمارات وشعبها للدولة والشعب الاسرائيلي عبر ممثليه الرسميين، وهذا بحد ذاته إضافة نوعية مهمة لمصلحة القضية وليس العكس كما يتصور البعض ممن يروجون لوهم يسكن خيالاتهم بأن الإمارات قد تخلت عن ثوابتها، وصارت حليفاً لإسرائيل، وهو حق يراد به باطل، إذ ليس معنى أن تمتلك الإمارات علاقات وثيقة مع إسرائيل أن تفرط في حقوق الفلسطينيين وتتخلى عن الدفاع عنهم، فهذه الجدال قد أُثير من قبل بالتزامن مع توقيع إتفاقية السلام، وليس مفاجئاً أن يظهر على السطح مجدداً، ونحن بدورنا لن نمّل من توضيح مايحاول البعض التغطية عليه وتسليط الضوء على حقائق الأمور والمواقف.