الصراع بين الكتل السياسية المتحكمة بالمشهد العراقي تؤكد مرة أخرى أنها طبقةٌ سياسية لا تجيد سوى تقاسم المغانم ولا تكترث لمخاطر الانهيار المتوقع للدولة العراقية، فقد تكشّف العطب في نموذج النظام السياسي العراقي القائم على المحاصصة العرقية والطائفية والذي يلبي احتياجات المصالح والمطالب للكتل والنخبة على حساب الصالح العام، ولا اعرف أين يميل الميزان حين نضع انهيار البلد في كفة وحق المكونات في كفة أخرى، هذا الحق الذي لا يستفاد منه سوى الفاسدين من المكونات، منعكساً بالكوارث على العراق الذي أصبح يواجه عوامل لا حصر لها تساهم كل منها جزئيا في الانهيار له.

تغوَل واستشراء الفساد
معظم مؤشّرات الفساد تؤكد استمرار تربّع العراق على عرش الفساد، ليصبح من ضمن الدول العشر الأكثر فساداً على مستوى العالم، ويعد الفساد الأكثر خطراً على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، لقد أنفقت الدولة خلال السنوات التسعة عشر أكثر من 1000 مليار دولار، من دون تحقيق أي تنميةٍ على أرض الواقع، سنوات متتالية من فضائح ملفات الفساد التي طالت مختلف القطاعات، النفط، الكهرباء، الأسلحة، الصحة والتعليم، لم تستطع الحكومات المتعاقبة إحراز أي تقدّم في مكافحة هذه الآفة بسبب تبني المتحاصصين نظام "المكونات" القائم على مبدأ التراضي والتغاضي، والذي وفقاً له تتقاسم الأحزاب والميليشيات الموارد المالية للوزارات والمؤسسات الحكومية مما سبب في ضياع مليارات من الدولارات. اليوم تتزايد الهواجس والخشية من تكرار ضياع الفوائض المالية الكبيرة المتحققة حاليا جراء ارتفاع أسعار النفط العراق، في ظل استمرار الفساد وانعدام الرقابة واستمرار إقرار الموازنات من دون أن تقدم الحكومات العراقية الحسابات الختامية السنوية من 2013 إلى 2021. الفساد يا سادة القوم "بداية شرخ يؤدي إلى انهيار الحضارات والأمم” كما يقول ابن خلدون.

إهمال قطاعات الإنتاج غير النفطية
تبني السلطات الحاكمة لنموذج اقتصادي عمًق من تحكم النفط بكل مفاصل الاقتصاد العراقي ( الموازنة ،ميزان المدفوعات ،سعر الصرف) وإهماله لقطاعات الإنتاج غير النفطية كالقطاع الزراعي والصناعي، وقد أسهم هذا الأمر في تكريس التبعية الاقتصادية للعراق وجعله رهينة لاستيراد معظم احتياجاته من السلع الضرورية والكمالية .
فشل السياسات الاقتصادية في تحقيق نمو اقتصادي مستدام قادر على توفير فرص عمل فالنمو في القطاع النفطي يزيد من الدخل ولكن لا يزيد من الطلب على القوى العاملة لأنه كثيف الاستخدام لرأس المال قليل الاستخدام لعنصر العمل، وسيكون الوضع أسوأ في السنوات القادمة، فالعراق سيدخل الهبة الديمغرافية خلال 3 - 5 سنوات القادمة، وهو يواجه تحديات ومعوقات أمام استثمار هذه الهبة، من أهمها ضعف الاستثمار في رأس المال البشري لتحسين مستوى التعليم والصحة وعجز الدولة عن توفير فرص عمل نتيجة لانخفاض مستوى الاستثمار، ففرص العمل التي يولدًها الاقتصاد العراقي لا تكفي لاستيعاب الأعداد الهائلة من الشباب التي تصل سنويا لسوق العمل، كما ان القطاع التعليمي يعاني من سلبيات كثيرة واختلالات بنيوية تجعله عاجز عن تلبية سوق العمل، انتشار البطالة بين أوساط الشباب المتعلم ساهم في ظهور جيل محبطا يتعاطى 50% منه المخدرات. ،فهناك حاجة إلى زيادة الاستثمار في القطاعات الغير نفطية القادرة على خلق فرص وظيفية أكبر.

جفاف وتصحر
تفاقم ازمة الجفاف والتصحر وتراجع منسوب المياه الجوفية إلى المستوى الذي بات يهدد الأمن الغذائي، لتأثيره على قطاعات الاقتصاد كالزراعة والصناعة التي تشكل أساس التنمية. ويضل هذه الأزمات والتحديات تشكل عوامل انهيار لأي نظام في العالم وليس في العراق فحسب، إلا أن الكتل السياسية العراقية لم تكترث لهذه التحديات و بدلا من ممارسة هذه الكتل لمسؤولياتها الوطنية والأخلاقية في تشكيل الحكومة وإقرار الموازنة العامة للبلاد لصياغة برنامج واقعي لمعالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، نراها دخلت في "حرب المكونً الأكبر والأصغر" ضاربة بعرض الحائط مبدأ المواطنة والمساواة والديمقراطية حتى يبقى التقاسم للإيرادات النفطية ساري المفعول بين المكونات ويبقى الاقتصاد متخلفاً غير قادر على إنتاج أي سلع صناعية أو زراعية سوى النفط الخام وبالتالي زيادة تبعيته الاقتصادية والسياسية للدول الأخرى، فالسياسيين أصحاب المصالح النفعية يدركون جيداً إن استراتيجيات التنمية الحقيقية تفرز تغيرات جذرية تستتبع دون شك معطيات جديدة تتمثل في ظهور فاعلين جدد على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي ،فالتنمية الاقتصادية هي شرط الحرية كما قال المفكر البنغالي أمرتيا صن.