أطلق الإغريق على العراق القديم أسم "ميزوبوتاميا" نسبة إلى نهريه “دجلة والفرات"، ومعناها " بلاد ما بين النهرين “أو" بلاد الرافدين“. ودائما ما يذكر عنه مهد الحضارة لكثرة الاختراعات والابتكارات الحضارية التي ظهرت فيه قبل غيره من البلاد منذ مطلع الألف العاشر قبل الميلاد حتى القرن السابع الميلادي. فأبدع أهل العراق في الزراعة والتجارة والصناعة وبناء المدن واختراع الكتابة والنظريات السياسية وفنون الحرب. فكان وطن أول أوائل في الاختراعات التي وصلت إلى "39” منجزا في براءة الاختراع الأولى، حتى قيل إن “التاريخ يبدأ من سومر".

بالمقابل، هناك جدلية حياتية نشأت مع هذه الحضارة، حيث الاختراع المُبهر، والعطاء الثّر للإنسانية مقابل ضريبة كوارث الطبيعة، وحروب الموت. فكان حقوق الوصول إلى المياه هو سبب أول حرب مدوّنة في السجلات عام 2700 ق.م، حيث قاد ملك مدينة كيش السومرية حملة عسكرية ضد بلاد عيلام التي تقع الآن في إيران، فأنتصر عليهم.

مثلما كثرت اللعنات على هذا البلد شعباً وأرضاً، ابتدأت بالنبي إسحاق في معاقبة بابل في حكم الاشوريين عام 700 قبل الميلاد. مروراً بحروب الانتقام بين البابليين والاشوريين؛ كلاهما يفتخر بقتل الكبار والصغار وجعل "جثثهم أكواماً وبيوتهم ركاماّ". كـأنه التاريخ حاضرا في بلد الكوارث ينبش غبار الزمن.

مثلما شهد العراق القديم عواصف التراب الأحمر والفيضانات وحرائق المدن، وانتشار الأوبئة والأمراض والسرقة واللصوصية. فلا يخلو عصر إلا وتكون حصة العراق هي الأكبر مساحة، والأشد حزناً في النفوس، والأقسى إيلاما على الناس. كأنها متواليات رياضية في تكرارها عبر العصور، تتلاطم مع بعضها، لا تهدأ براكينها إلا بعد أن تنهار الأنفس، وينعدم أوكسجين الحياة.

احترقت بغداد أكثر من مرّة، ومات الكثير من أهلها، وغادرها الكثير مرغمين، وتحولت بيوتها تلال من الرماد. وفي سنة (451 هجري)‏ احترق جانب الكرخ من بغداد والذي أدى إلى احتراق خزانة الكتب الحاوية على عشرة آلاف مجلد وأربعمائة في مختلف العلوم منها مائة مصحف لخط ابن مُقلة والتي كانت تُسمى (دار العلم). مثلما انتشرت الأوبئة والأمراض الخطيرة كالطاعون والجدري، وحدثت المجاعات المهلكة، فكانت الجثث تدفن بدون غسل ولا تكفين وكانت الحفرة الواحدة يوضع فيها ما بين العشرين إلى الثلاثين شخصاً. ففي حصار (530 هجري)، شهدت بغداد موجة من الأمراض والأوبئة وكان معدل الوفيات مائتي شخصاً يومياً.

وعندما يذكر العراق، يذكر معه حصارات التجويع الجائرة، وغزوات الموت الحزينة، وهمجية المحتل، كأنها صورّ مركبة وملصقة بتطبيق رقمي معاصر. فقد شهد العراق أكبر مجزرة في التاريخ سنة 656ه على يد المغول، بقيادة هولاكو، حيث قتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، فكانت جثثهم في الطرقات كأنها التلول. مثلما تم نهب وحرق مكتبات بغداد وإتلافهم الكتب في نهر دجلة، حيث قيل إن الماء أصبح لونه أسود، وأصبحت مجلدات الكتب معبرا للمغول للانتقال من ضفة إلى أخرى.

لم تنتهي كوارث العراق عبر التاريخ، فقد كانت الطبيعة هي الأخرى ظالمة بحق هذا البلد، فكانت الفيضانات والأتربة تأخذ نصيبها هي الأخرى. فكانت الفيضانات تفتك في العراق منذ أواسط القرن الثالث للهجرة، فكان فيضان الموصل سنة 848 م أكبر كارثة بسبب الأمطار الغزيرة، حيث مات ما يقارب المئة ألف نسمة. أما بغداد فقد بدأت قصة الفيضانات معها منذ 978م ثم توالت سنوات الفيضانات كأنها أصبحت سمة بغدادية، فما بين فيضان تجد فيضان قادم يحرق اليابس والأخضر كما يقال. فتهدمت الدور لتصبح انقاضا متراكمة، ومات مئات الاف من البشر غرقا أو جوعا، وجرفت البساتين والمزارع، وأزيلت معظم حارات بغداد ومحلاتها وشوارعها وقبورها.

أما العواصف الرملية والترابية والجفاف والزلازل، فلها قصة أخرى، فلم يسلم العراق في التاريخ القديم أو الحديث من هذه الظواهر البيئية، خاصة إنه يعاني اليوم من تكرار هذه العواصف البرتقالية المحملة بأطنان من الأتربة. ويقال إن بغداد وحدها دخلتها 60 طنا من التراب، وتعرض العراق إلى سابع عاصفة في شهر واحد مما سبب في تعطل مظاهر الحياة، وموت واختناق العشرات من البشر. وكلها بسبب تغيير المناخ وزيادة الجفاف ومعدل التصحر وقلة هطول المطر والأحزمة الخضراء المحيطة بالمدن.

ولأن العراق تنقصه الأزمات فقد أضيفت إلى قائمة الكوارث الزلازل التي باتت تشكل خطرا آخر على مستقبل هذه الأرض. ولعل زلزال عام 2017 هو اقوى زلزال يضرب مدن عراقية، وهو حدث غير مسبوق على مستوى التاريخ الحديث للعراق.

يبدو إن الكوارث بأنواعها هي العامل الوحيد الثابت في العراق، وهي انعكاس لشخصية العراقي الحادة والمتقلبة والصابرة والمتكيفة لمواجهة الشدائد؛ الثائرة بسرعة والمُنطفيّة أسرع!

بالمختصر المفيد، ربما التاريخ بأحداثه وكوارثه يقترب من فكرة التكرار التاريخي عقيدة العَود الأبدي التي كتب عنها كل من "هاينرش هاينه" وفريدريك نتيشه" التي تقوم على مفهوم "التاريخ يعيد نفسه". والأكيد بأن رعيان السياسة والدين وزعاطيها في العراق جمعوا كل تاريخ الكوارث الطبيعية والبشرية القديمة، وسنوات الجمر والقحط والجفاف التي تعاقبت عليها عصور العراق المختلفة، حيث جلبوها كلها بلا نقصان، بل زادوا عليها أطنان من الرذائل والجرائم والأحقاد؛ حولوا العراق إلى جحيم لا يطاق من الجفاف السياسي المتصحر بقاذوراتهم المتعفنة، وغبار أفعالهم المحملة بأتربة الدجل الديني والطائفي.

أغلقوا منافذ الحياة بالفساد الممنهج، والسلاح المنفلت، والفكر الديني المنحرف، فأحالوا أرض العراق إلى وادي للصوص والرذيلة والعمالة والأحزان والكوارث. فلم يعد مياه الرافدين ضيفا دائما في قريتنا ومدينتنا، وماعاد نخلنا شامخاً بطلعه وعناقيده، وصار علينا حصارا في أكل العنبر والبرتقال والعنب والرمان، وكل ما ينبت في تربتنا الوطنية. صار العراق رمزا ًللجفاف القاتل في زرعنا وصناعتنا وتنميتنا ورموزنا وثقافتنا وجامعاتنا ومدارسنا. كما الكوارث المتوالية التي أصبحت عنواناً للموت الأبدي؛ الكل يسير في جنازة الوطن!

سلام على العراق الذي أعياه كثرة الصبر والنوائب والأحزان. يكابده المكابرة مرة والذبول مرة أخرى. لا يدري أين مصيره الحاضر ومستقبله. وصدق شاعر القرنين عبد الرزاق عبد الواحد عندما قال "هذا الخراب...وهذا الضيق لقمتنا".

ياصبر أيوب!

[email protected]