قد يبدو الأمر مريحًا عندما يخلو الفرد إلى نفسه، يراجعها، يسائلها في ما أتت بِه من أفعال وأقوال خلال ساعات النهار... وذلك قبل أنْ يغفو مسابقًا الأحلام، مستعيدًا الأندلس أو مصليًا مع أطفال الحجارة في المسجد الأقصى...


ولا يُعكِّر صفوة هذه الراحة، إلاَّ واقع شروق الشمس من جديد، حيث يضعُ تجددُه هذه الأحلامَ في مرمى التبخّر بفعل شدَّة الحرارة، ترتفع كقطراتٍ تتسابق لتتجمَّع في غمام يؤمَلُ مِن تشكُّله أنَّ وجهتَه تنحو -لا ريب في ذلك- نحو استعادة أمجاد التاريخ... وهنا، يكون أيضًا لتجدد الشروق وموجات الحرِّ القادمة من عصفٍ شمسيٍّ إيقاظُ سعير وإطفاءُ سعير، وتدويرُ تاريخ وتذويبُ تاريخ...


وبين سعير وسعير وتدوير وتذويب، يجد الفرد نفسه غير قادر على الإنجاز إلاَّ في بلاد العجائب، تحت حُجب الظلام وراحة الوسائد... وعوض أنْ يقفَ أمام المرآة ليرى حقيقة ما يُخفيه، وعوض أن يعي فيه المكان والزمان وتبدّل الأحوال، يأخذ ريشةً قيّدها ببضعة ألوان، يُخرس بها كلَّ لُغةٍ للمرآة بِطيفٍ رسمه عليها ونظر فيه ليصبح القالب الذي يَسجنُه في شعورِ رضاه عن نهاره، وزيف راحة أحلامه...
والخطر الأكبر هنا هو الغفلة عن الزمن، ومحاولة استحضار المكان، وإلباس الغد لباسَ الأمس، وإيقاظ الموتى، وتبادل الأماكن بين حيٍّ بلا تفكّر وميت يتفكّر عن حيّ، والحيّ المتفكِّر ضَالٌ يبحث عن أرض فيها متّسع للحياة، للحرية، للاختلاف، للنقد، للمعرفة، للحكمة، لليقين، للقانون، للقصاص.


والخطر في التغافل عن الزمان واستحضار المكان، هو التعامي عن أنَّ الإنسان محكوم بالوقت، أسير الزمن الافتراضي، حياته ماضٍ مضى أو مستقبل لم يأتِ بعد؛ ماضٍ لا يمكنه تكراره بتفاصيله كما هي، ومستقبل لا يتحكَّمُ بصيرورته؛ إذ هو يجهل ما تحتفظ له به الأقدار... والزمن متغيّر، صائر نحو الأمام، يكرُّ بلا فرٍّ، ويتقدَّمُ بلا تقهقر إلاّ في ذاكرة الإنسان، التي تستلذُّ الزمن القهقري، وتملِّكه مفاتيح سعادَتَها، وتنصِّبه حاكمًا على مصائرها الآتية، ينتقي منها لها ما يشاء!


ولو أدرك الإنسان أنَّه جزء من الطبيعة بالفعل لا بالقول، لرأى فيه ما يراه فيها: تغيّر وتجدد مستمر؛ فالفصول التي تعود كلَّ عام، لا تعود بصيرورتها الأولى، ولا بهيئاتها، ولا رياحها ولا نسيمها ولا مطرها ولا حتى شمسها، لأنَّ توافق المسمَّى لا يحتّم توافق المضامين والكَنَه والماهية.


كلَّ عام له فصوله الخاصة به، ولكل فصل من كل عام ميزاته التي يسْطُر بها بصمته في صحائف البشر ورحلاتهم وبكائهم وعافيتهم وأمراضهم... حتى المرض الذي قد يعودنا كلَّ عام لا يعود بالأعراض ذاتها في قوتها وتنوّعها وتفاعله مع الدواء الذي قد يربح الحرب بجسارته سنة، ويخسر الحرب أمام شراسته سنة أخرى.


الزمن الذي يستحضر المكان ويتوقف عن الجريان عند الإنسان لهو متحرّك لا يعود إلى الخلف عند الكائنات والجماد، فسُنَّة الكون الحركة، والتطور لا محالة أمر محتوم.
حتى في القيامة عندما لا يعود هناك إلاّ وجه الله الغامر حيث لا وجود للوجود، للمصنوع، للمخلوق، بل للخالق، للصانع، لصاحب الكلمة التي كانت هي أصل الوجود وصيرورته.، لن يكون الأمر كما كان إذ لَمْ يكنِ الله قد قال للكون كُن فكان، ولَمْ يكن هناك وجود، ولا بشر، ولا مُرسلين، ولا حساب، ولا جنّة ونار، ولا يوم حساب ولا قيامة.
فلِمَ من هو جزء من الزمان يسير بسيرِه مجرى نهرٍ يصبُّ في بحرٍ يرتوي مِن مياهِه ولا يروي أبدًا نهرًا، لِمَ يجمّدُ روحَه في قوالبَ بالية عافها الزمان، ويقعّرُ جسده في خِرَقٍ تعبَ مِن عبقِها الغُبارُ، ويأسرُ مستقبلَه رهينَ قبورٍ لَمْ يبقَ فيها مِن أثَرٍ؟