من أفضل ما عُرض في الدورة الثامنة لمهرجان أفلام السعودية فيلم My Vibe (جوي) لمخرجته فايزة أمبه، فهو فيلم يندس بالعدسة في طيات القاع الاجتماعي، بالمعنى المادي للكلمة، ليقدم جانبًا حيًا من واقع المهمشين. على طريقة الفيلم البرازيلي الشهير City of God (مدينة الرب) مع اختلاف الثيمة المعتمدة بين الفيلمين وطريقة المعالجة الدرامية. حيث يتأسس فيلم (مدينة الرب) على الجريمة كملاذ للمراهقين الذين يتربون في أجواء الفقر والمخدرات والعنف، وعلى إعادة إنتاج الواقع ووقائعه، فيما ينبني فيلم (جوي) على فكرة إنطاق الحيوات المهمشة بمختزناتهم من الخيبات والآمال، وعلى قراءة واقع المكان، ثم التلويح لهم بالسينما كشكل تعبيري عن وجود مغاير لحياة غيتو الحارة، بما يكتنفه من انغلاق وبؤس واعتيادية حياتية قاتلة. أو كما عبر عن تلك الدوامة اليومية أحد أبناء الحارة بمحدودية الحركة في مثلث: البيت، الكورة، المسجد.

واللافت أن الفيلم، بما هو منتج ثقافي، جاء ضمن مشروع سينما الحارة الموجه لأحياء الرويس والهنداوية والسبيل في جدة. وذلك من منطلق التعامل مع الناس العاديين من أبناء الحارة كممثلين وكعاملين مساعدين في صناعة الفيلم، ضمن حيلة فنية لافتة قوامها فيلم داخل فيلم. أو استخدام فكرة التمثيل كقناع للكشف عن روح الفضاء الاجتماعي، وتجسيد مشاهده الحية. وهذا هو ما دفع بالفيلم إلى القالب التسجيلي مع جرعة من التحليل الاجتماعي. حيث كانت العدسة تحلل التشكيلة البشرية بقدر ما تنسخ الواقع بكل مركباته المادية واللامادية، كما تقتنص الجدران بخربشاتها وشروخها في الوقت الذي تغري الوجوه بالاقتراب من العدسة. وذلك من خلال نقلاتها الذكية في فضاء الحارة. وبمقتضى الكلمات العفوية المعبرة لتلك الحيوات عن صرامة الواقع، كما تأوهها أحد الأطفال بحسرة إثر إحساسه بانقضاء تجربة التمثيل الحالمة "حنرجع للحياة المتدهورة بس كورة وبيت".

هكذا بدا الفيلم وكأنه لوحات بانورامية ناطقة بواقعية اللحظة وصراحة المكان، حيث تحركت الكاميرا بمسافات متباينة ما بين العدسة والحارة كموضوع، بلقطات عامة بعيدة، وأخرى قريبة تتقصى خطوط المكان العميقة، كما غابت اللقطات المأخوذة ببؤر رومانسية ناعمة لصالح لقطات البؤر الحادة انتصارًا للواقعية. وكل ذلك مقابل تراجع الخط الدرامي، وتلاشي الحبكة. أو هذا ما أرادته فايزة أمبه، أي كشريط بصري يعادل الدراسة الاجتماعية، اتكاءً على جماليات الصورة، ورصد الحياة اليومية لشخصيات منسية ضمن فضائهم الطبيعي المعاش، من دون الاستعانة بأي ديكورات صناعية أو تصعيدية لدرامية المشهد الحياتي. وبذلك نجح الفيلم في توليد القصة التي تنتج نفسها بنفسها، كما نجح في إبراز مشاعر الشخصيات بمنتهى الشفافية، وذلك من خلال قدرة العدسة على استنطاق مجمل الأبعاد الثقافية لذلك الفضاء المنسي. وتلك هي القيمة الجوهرية للفيلم، أي نقل الواقع الخام ضمن سردية تعتني بحركة الشخصيات وهمساتها وحشرجاتها وحسراتها وآهاتها ورقصها وغنائها. وكذلك قوة وصدقية الصورة في امتصاص الواقع وتحويله إلى شريط بصري شاعري.

فيلم جوي ليس فيلم حدث، ولا فيلم شخصية، بل فيلم مكان وشخوص، فهؤلاء الأطفال الذي لامسهم حلم التمثيل والاشتراك في صناعة الأفلام لم يتعبوا من مطاردة فريق العمل من حارة إلى حارة، وكأنهم يعون تمامًا أهمية حضورهم لتأطير الفيلم كوثيقة اجتماعية تحتفي بالمكان وشخوصه. وبقدر ما كانوا جزءًا من الحارة وموضوعًا للفيلم، صاروا فصلًا من مادته وسرديته، بل اقتربوا إلى الاضطلاع بدور الرواة الضمنيين للفيلم. حيث شكلوا القيمة الفاعلة لتشكيل الصور، وبالتالي رسم معالم سرد الفيلم، وذلك بتوجيه فايزة أمبه، التي على ما يبدو لا تفصل ما بين التجربة الجمالية والظاهرة الاجتماعية، بل ذهبت من خلال فيلم (جوي) إلى موازاة الظاهرة السينمائية بالعملية الاجتماعية، لتشكيل هوية ذلك الفضاء المنسي، الذي يشكّل إثر مشاهدته كفيلم هويتنا كمشاهدين ووعينا الجمالي بالوجود، بما يهبنا إياه من قدرة على التفكير بالصور ، والتضمينات، والمجازات، والقيم اللونية.